بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ثورة شباط 1963 متلازمة بين عنصرين أساسيين.. كيف؟

شبكة البصرة

د. أبا الحكم

العقود الماضية من القرن المنصرم كانت مزدحمة بنمط معين ومحدد من أدوات التغيير، حين تستدعي الشروط الذاتية وتستوجب الظروف الموضوعية تغييراً في قمة سلطة حكومة ما، وذلك إما لدمويتها أو لعدم تلبية مطالب شعبها أو لعجزها أو لفسادها أو لعدم قدرتها على مواجهة ضرورات او متطلبات شعبها او انعدام تأثيرها وتفاعلها ورضوخها للتدخلات الخارجية. إلخ.

الحكومات كلها يجب أن تكون ممثلة لشعوبها على وفق الشروط المثبتة في أعلاه حيث يتم الاتفاق عليها في العقد الاجتماعي، وعند الاخلال بهذا العقد من لدن الطرف الاخر ممثل بـ (الحكومة)، يقوم الشعب بفسخ التعاقد ويستنهض قوى أخرى لإدارة شؤون الحكم وفق الشروط آنفة الذكر، وعلى الحكومة التي اخلت بالشروط ان تحل نفسها وتكف عن الإتيان بأية فعاليات من شأنها ان تعيق إرادة الشعب في خياراته.. هذا هو النمط التعاقدي السائد عملياً منذ برلمان روما ونظرياً على اساس تنميط الحالات التي تتمسك بها قوى سياسية تزعم انها وريثة (حق إلهي على الأرض) لا أحد يستطيع انتزاعه أو أن لها (مكتسبات) تزعم أن (من حقها الحصول عليها) هي وعوائلها والمحيطين بها.. فيما يتقدم هاذان النمطان من أدوات التغيير النمط الاول: وهو (الانقلابات) العسكرية التي يقوم جزء بسيط من القوات المسلحة للدول بعمل التغيير السريع والحاسم، وهو (تغيير) وليس (ثورة)، والفرق واضح بين الانقلاب العسكري وبين الثورة، وقد تتطور حالة التغيير العسكرية إلى ثورة حينما تستوفي الشروط وتتكامل على وفق برنامج ثوري معد من قبل.

لسنا في معرض الحديث نظرياً كيف نشأت (ثورة شباط 1963)، إنما كيف تشكلت عمليا على أرض الواقع خلافاً لأنماط الانقلابات والثورات التي تحدثنا عنها، فهي ليست انقلاباً عسكرياً إنما ثورة طالما قام بتفجيرها طليعيون وطنيون تلاحموا في التنفيذ مع قوات مسلحة وطنية وتكاتفوا في التخطيط والتنفيذ وفجروها ثورة ارتكزت على إرادة الشعب من أجل التغيير الجذري لأوضاع الشعب.. ومسألة التغيير لها مضمون عميق يشتمل على منهج سياسي وجملة ملفات تتضمن مشروعات (الاقتصاد والصناعة والزراعة والتعليم والصحة والمجتمع والبيئة والقوات المسلحة والأمن وبناء علاقات متوازنة ترسي دعامات للمنافع المشتركة وتحقق الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم).. هذا هو منهج ثورة شباط 1963.. فهل هي انقلاب؟ وما دام هذا هو منهجها فلماذا لم تتحول إلى ثورة؟ وللإجابة على هذا السؤال الحيوي نؤكد على الآتي:

اولاً- أدركت القوى الإقليمية والدولية التي لا ترتضي التغيير في العراق إنما إبقاءه متخلفا وشعبه متخلف وجاهل وثرواته مشتتة ومبهدلة ومنهوبة من لدن الشركات العملاقة وخاصة شركات النفط (البريطانية والأمريكية والهولندية والفرنسية) التي يقف خلفها الكيان الصهيوني، خشية:

1- أن يتطور العراق.

2- ويحقق تكاملاً في عناصر قوته.

3- ويشكل أنموذجاً ثوريا للأقطار العربية لكي تنهض.

4- وتنهض من خلالها الأمة العربية وتتوحد وتتكامل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا فتشكل خطراً داهماً على المصالح الأجنبية الطامعة منذ قرون بأرض العرب وخاصة منذ أن اكتشف النفط والغاز والثروات المعدنية النادرة في المنطقة.

ثانياً- أدركت القوى الخارجية اهمية منع ثورة شباط من أن تأخذ مداها من أجل التغيير ولا بد من تفجيرها او التآمر عليها من داخلها وهذا ما حدث في 18/تشرين 1963 حيث أجهضت الثورة وأُدخل القطر في دوامة من الصراع اعتقاداً من القوى الاجنبية بأنها قد تمكنت من الإطباق على وضع العراق، ولكنها فشلت تماماً حين اندلعت ثورة السابع عشر- الثلاثين من تموز عام 1968 لتضع العراق على مسار التغيير الجذري وفق منهج متكامل في ملفاته لينهض بالعراق وبأولويات تحولاته الأساسية والجوهرية إدراكاً من قيادته الوطنية والقومية بأن التغيير والتطور لن يتم إلا بمنهج سياسي، وهذا المنهج لن يتم إلا بالاقتصاد ومن غير الاقتصاد فإنه من الصعب الحديث عن التطور والنهضة التي تستوجب تحرير (الاقتصاد) من قبضة الاحتكارات الأجنبية النفطية، فصدر قرار التأميم الخالد، فتحرر الاقتصاد بعد ان تحقق تحرر السياسة في الثورة.

ثالثاً- تحرر السياسة في الثورة وتحرر الاقتصاد في الثورة، انجز ثورة انفجارية تناولت كل الملفات التي درستها الثورة بإمعان قبل الثورة ووضعت مخططاتها الاقتصادية والصناعية والزراعية والعلمية والتعليمية والصحية والعسكرية على طريق التطبيق، فيما رصدت لهذه الثورة الانفجارية مبالغ طائلة متحصلة من واردات تأميم النفط ولولا التأميم ما كان لهذا التطور أن يحصل أبداً.

رابعاً- هل تسكت دول النهب الاستعماري على قرار التأميم؟ طبعاً إنها لن تسكت.. ومنذ ذلك الحين وهي تعمل على معاقبة ثورة السابع عشر- الثلاثين من تموز 1968 بكل الوسائل الممكنة والمتاحة ومنها:

1- التآمر الداخلي.

2- العدوان الخارجي الاقليمي (الفارسي).

3- العدوان الامبريالي (الأمريكي البريطاني الايراني الصهيوني).

خامسا- وعلى مدار سنين ومنذ اندلاع الثورة والعراق يتعرض للتآمر الداخلي، ولم يحصد المتآمرون سوى الخيبة.

سادساً- قررت القوى الأنجلو- أمريكية قيادة تحالف عدواني واسع النطاق ضد العراق عام 1991 وكان العدوان الثلاثيني الغاشم الذي امتص زخمه العراق بحنكة قيادته الثورية وبقدرات شعبه الهائلة.. إلا ان هذا العدوان رغم انه لم يحقق اهدافه بإسقاط الثورة، فقد أضعف قواها ودمر جزءًا من بنية العراق التحتية التي سرعان ما استعاد العراق عافيته.

سابعاً- وهل اكتفى العدوانيون الإمبرياليون بعدوانهم؟ كلا، إنما عمدوا على تغيير أنماط التآمر عن طريق تحولات وتحالفات جديدة دفعت متغير نظام الشاه الايراني بنظام ثيوقراطي - اوليغارشي، ترأسه خميني رجل الدين الذي تكفلت بتوجيهه الـ(أم 16) المخابرات البريطانية المدعومة امريكيا وفرنسيا وإسرائيلياً على وجه التحديد، ليشن عدواناً عاماً شاملاً دون مبرر شمل القصف المدفعي الثقيل والطيران الحربي الواسع النطاق وغلق الحدود والمياه الاقليمية واعلان التعبئة العامة والنفير العام، فضلا من قيام المخابرات الايرانية بتفجيرات واغتيالات في داخل العراق شملت قيادات وكوادر.. قدم العراق أكثر من (400) مذكرة دبلوماسية رسمية الى الامم المتحدة ومجلس أمنها والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وحركة عدم الانحياز والعديد من الوساطات التي لم تنفع حتى تدفقت القطعات العسكرية الايرانية واحتلت المدن الحدودية واقتحمت المخافر والموانئ.. وهذه الأفعال في عرف القانون الدولي حالة إعلان الحرب التي تستوجب حالة الدفاع وتلك مسألة مشروعة.. فقامت القوات العراقية بطرد القوات الايرانية ومطاردة فلولها واسكات نيرانها في العمق الإيراني.. عندئذٍ أعلن العراق استعداده لوقف إطلاق النار ومنذ الأسبوع الأول، إلا ان النظام الفارسي أصر على استمرار الحرب على العراق طيلة ثمان سنوات قبلَ بعدها خميني بتجرع سم الهزيمة بتاريخ 8/8/1988.

ثامناً- وهل اكتفت القوى الأنجلو- أمريكية بهذا العدوان على العراق وإضعافه؟ كلا، إنما باتت تفتش عن وسائل اخرى من شأنها ان تحقق اهدافها العدوانية.. فابتكرت أداة النفط لوضع الثورة أمام وضعين:

الأول- إثارة الداخل نتيجة متطلبات الحياة المعيشية وتزايد الحاجات ومعدلات الديون وضعف الإمكانات، الأمر الذي يدفع إلى إثارة الداخل وإيجاد فرص للتآمر الداخلي.

الثاني- خارجي يتمثل برفع انتاج النفط وتسويقه وإغراق الأسواق العالمية من اجل هبوط الأسعار.. وأول من نفذ قرار النفط (الامارات والكويت والسعودية)، الأمر الذي أنتج خسارة فادحة لموارد نفط العراق بحيث لم يستطع ان يلبي حاجات دفع رواتب للمدنيين والعسكريين، وهو هدف مركزي من أهداف إثارة الداخل.. وعلى الرغم من مناشدات العراق المتكررة للأشقاء إلا انهم راوغوا وأصروا على نهجهم.. والجميع يعلم كيف كان عليه مؤتمر الجامعة العربية الذي عقد في القاهرة وكيف أداره الرئيس حسني مبارك وكيف تم تدويل القضية بدلاً من حصرها في البيت العربي من أجل إيجاد الحلول العربية لها.

تاسعاً- هذان العاملان هما اللذان دفعا بالعراق الى الدخول الى الكويت، اضافة إلى عامل آخر وهو الحشود الأجنبية التي وصلت قواعد في قطر والكويت ومياه الخليج العربي، ومعلومات عن التمركز في جزيرتي (بوبيان) و (نويصيب) تمهيداً للقفز منها الى الفاو ورأس البيشة ثم البصرة.. عندئذٍ، ما الذي سيفعله العراق حين يكون القتال دفاعياً فوق أراضيه خاصة في ظل انعدام توازن للقوى؟ لا يستطيع إلا ان ينقل الحرب إلى خارج حدوده إذ ليس أمامه إلا هذا الفعل أو الرضوخ وهو أمر غير ممكن اطلاقاً.

عاشراً- مكنت بعض الأنظمة العربية من تسهيل فرض قرارات مجلس الأمن بالجملة ورفض قرار العراق منذ الأسبوع الأول الانسحاب من الكويت، واغلقوا عليه طريق الانسحاب المنظم كلياً.. من المسؤول عن رفع انتاج النفط بواقع غير مسبوق؟ ومن المسؤول عن تدويل الصراع؟ ومن المسؤول عن تسهيل وفتح الحدود للعدوان على العراق؟

حادي عشر- ومع ذلك لم يسقط نظام الحكم الوطني في العراق.. حتى جاءت امريكا وحلفاؤها وفي مقدمتهم إيران في تحالفها الذي كرسه مؤتمر لندن ولقاءات البنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية ووفد النظام الفارسي في طهران بقيادة عبد العزيز الحكيم حين استكلب حثالات الفرس واعوانهم.. وهكذا جاءت الامبريالية الأمريكية بنفسها وبكل قواها وطاقاتها التدميرية واحتلت العراق وقامت بتدميره وفرضت عليه مساراً فارسياً من اجل تجويعه وتركيعه وإذلاله ومحو هويته القومية العربية.. فما الذي فعلته الأنظمة العربية بالعراق وشعب العراق؟ ما الذي ستقوله للشعب العربي في مصر والامارات والكويت والسعودية وسوريا، وللتاريخ؟

الشعب وذاكرته تظل ماثلة أمامه، وهو باقٍ يلد الثوار كما يلد الثورة وحسب الواقع المعاش ومعطيات هذا الواقع هي التي تفرز روح الثورة.. وكما فرضت معطيات واقع ثورة 8/شباط 1963 حضورها، وكذلك ثورة 17- 30/تموز1968 الخالدة وجودها.. الأولى كرست تلاحم الخط المدني مع الخط العسكري فأنتجت ثورة الشعب، كرست الثانية شعباً فجر طاقاته العلمية فأنتج واقعاً متحرراً في كل مجالاته الحياتية بات أنموذجاً يستذكره العراقيون والعرب والعالم ما تزال شواهده قائمه لا يمكن محوها أو إنكارها.. والقادم ليس بعيداً إنه ثورة في الثورة.!!

شبكة ذي قار

شبكة البصرة

الثلاثاء 22 شعبان 1444 / 14 آذار 2023

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط