بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إنّ الباطل كان زهوقا:

قراءة في كتاب "التصدي لصدام حسين “للمؤرخ الأمريكي ميلفين ليفلر

شبكة البصرة

بقلم عبد الواحد الجصاني

بمناسبة الذكرى العشرين للغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، صدر في الأول من شباط/فبراير 2023 كتاب (التصدي لصدام حسين: جورج بوش وغزو العراق) لواحد من اهم المؤرخين السياسيين الامريكان وهو الأستاذ الجامعي الأمريكي ميلفين ليفلر (Melvyn Leffler). الكتاب هو حصيلة عمل دؤوب قضاه الباحث منذ عام 2010 في دراسة الوثائق وإجراء المقابلات مع مسؤولي الادارتين الامريكية والبريطانية وقت الغزو، وعرض المؤلف هدف الكتاب بالقول "هذا الكتاب يسعى لتفسير أكثر قرارات السياسة الخارجية الأمريكية تأثيرا في القرن الحادي والعشرين وهو كيف صيغ ونُفّذ غزو العراق والحرب على الإرهاب" (ص 21)، ثم ذكر نتائج تلك الحرب بالقول "القوة الامريكية أهينت، وجرى تحديها، وانحسرت هيمنة امريكا الاقتصادية وأهتز تماسكها الداخلي وسببت حرب العراق الإحباط للشعب الأمريكي وعمقت انقسامه الحزبي ومزقت الثقة بحكومته (ص 25). وتميز الكتاب بأنه وضع الغزو وهزيمة أمريكا في العراق في اطارها الجيوستراتيجي الصحيح معتبرا قرار غزو العراق هو قرار للسياسة الخارجية الأهم في مجمل فترة ما بعد الحرب الباردة، وإن هزيمة أمريكا في العراق تقف في قمة قائمة حالات الفشل الاستراتيجي عبر تاريخ أمريكا الطويل في العلاقات الدولية، وإن هذه الهزيمة وضعت حداً لغرور القوة والغطرسة الامريكيتين. وأضاف في الصفحة (27) "لو كنا أكثر ذكاء ولو كان لدينا صناع سياسة أكثر صدقا لسارت جميع الامور سيرا حسنا، لكن المشكلة كانت في صعوبة الحصول على معلومات صحيحة وصعوبة تقيم المعلومات بصورة موضوعية، لذلك كان من الصعب قياس المخاطر"،

ويفسر في الصفحة (664) سبب هذا الفشل بالقول "المعلومات المقدمة لبوش كانت ناقصة بشكل معيب، وفرضياته كانت غير دقيقة، وأولوياته غير واضحة، ووسائله غير متكافئة مع أهدافه، وتخطيط ساذج، وإدارة متهرئة، وتقييم هزيل لما حصل بعد الأشهر الأولى من الاحتلال". ويقول "ولذا فإن قراءة هذا الكتاب مفيدة لأي رئيس أمريكي يريد تجنب الكوارث ومفيد لأي مواطن امريكي يريد ان ينتخب قادة أفضل".

ونستعرض في السطور التالية أهم خلاصات الكتاب وملاحظاتنا عنه، مستدركين بالقول إن هذا المقال لن يغني قطعا عن قراءة الكتاب، وهذه دعوة للسياسيين والثقفين العرب أن يقرأوا الكتاب بتمعن، ففيه أدلة إدانة دامغة على ان الولايات المتحدة ارتكبت عن قصد جريمة العدوان ضد العراق ومعها عدد لا يحصى من جرائم الإبادة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وكلها جرائم ستحاسب عليها فهي لا تسقط بالتقادم.

 

أولا: أهم خلاصات الكتاب:

1- ذكر في الصفحتين 93-94 إن نية اسقاط النظام العراقي كانت مبيته قبل احداث (11/9)، وأن من بين أسباب كره المحافظين الجدد لصدام ورغبتهم في التخلص أنه" يعادي الصهيونية ويريد حذف إسرائيل من خارطة الشرق الأوسط ويسعى للوحدة العربية وقام بتأميم النفط واستخدم الموارد الهائلة الناتجة عن التأميم لتحديث العراق".

وأشار الكاتب الى انه قبل ثلاثة أسابيع من تنصيب بوش رئيسا للولايات المتحدة (جرى التنصيب يوم 20 كانون الثاني 2001) قدمت كوندوليزا رايس الى بوش مذكرة وضعت فيها الخطوط العامة وجدول الأعمال للأشهر الستة الأولى من حكمه بهدف "تأكيد قيادة أمريكا للعالم" وان يكون ذلك من خلال "الدفع قدما بالاستعداد العسكري والمعنوي" وذكرت انها تريد سياسة هجومية اكثر فعالية تجاه العراق، وإن عقوبات الأمم المتحدة ضد العراق وصلت الى طريق مسدود، وان القصف الدوري للعراق ضمن مناطق حظر الطيران يجعل الأمور أكثر سوءاً. وذكر الكاتب في الصفحة (98) "إن كراهية بوش لصدام كانت جليّة لأن صدام حسب قول بوش" لا يقبل قيمنا ولا يفهم الا لغة القوة". كما أشار في الصفحة (264) الى "إن مما جعل العلاقة بين بوش وبلير قوية هو كرههما المشترك لصدام حسين".

 

2- استعرض الكاتب كيف وضع مساعدو بوش العراق كهدف رئيسي للانتقام الامريكي بعد ساعات من احداث 11/9 وذكر في الصفحتين 253-254 الآتي " في مساء يوم 11/9 والحرائق ماتزال مشتعلة في وزارة الدفاع ووسط صفارات سيارات الإسعاف عاد رامسفيلد من الباحة المليئة بدخان الحرائق الى مكتبه في البنتاغون واستذكر مساعده الأقرب ستيفن كامبون (Stephen Cambone) خلاصة ما قاله: "اضربوا صدام حسين وليس فقط بن لادن، الأهداف الآنية يجب ان تكون واسعة امسحوها كلها بالأرض، اضربوا كل شيء مفيد".

وفي اليوم التالي (12/9) وخلال اجتماع مجلس الأمن القومي (NSC) طالب رامسفيلد ونائبه وولفوفيتز باتخاذ اجراء ضد صدام حسين، بينما كان بوش يريد التركيز على تطمين الأمة وتخفيف المعاناة وبث الأمل، خاصة وان مدير وكالة المخابرات الامريكية جورج تينيت أبلغه بعد ساعات من الهجوم أن التحقيقيات أثبتت، لحد ذلك الوقت، أن ثلاثة من المهاجمين هم من القاعدة (ص 186). لكن رامسفيلد وولفوفيتز أصرا على استهداف العراق بحجة أنه "لا توجد أهداف جيدة في أفغانستان لضربها، ولا أماكن يراد اخراج طالبان منها، وإن العراق هو هدف أفضل لإظهار قوة أمريكا وقيادتها". (ص 253)

ولاحقا سأل بوش مساعد رامسفيلد السيد كلارك: هل أن صدام حسين مرتبط بأي شكل من الاشكال بأحداث 11/9 فأجاب كلارك أنه لا يرى علاقة لصدام بهذه المذبحة، والمسؤول عنها هي القاعدة. كما ان السيد موريل (Morell) أيضا أخبر بوش قائلا "ليس هناك تورط عراقي في احداث 11/9، صفر، لا شيء"، وأضاف موريل "لكن العراق دولة إرهابية... وهم يقومون بتقديم الأموال والتدريب لمجاميع فلسطينية، ولكن ليس للقاعدة".

أما مستشار تشيني للأمن الوطني (Evic Edilman) فقد وضع الأمر بهذه الصورة "لدى صدام أسلحة التدمير الشامل، والقاعدة تريد أسلحة التدمير الشامل، وصدام احتفل بأحداث 11/9، لذلك من الطبيعي ان يتوجه الاهتمام للعراق".

وأشار في الصفحة (175) إلى أن وولفوفيتز كان لا يزال يسعى الى هدف تابعه خلال السنين الماضية وهو إمكانية اسقاط صدام حسين عن طريق دعم التمرد الشيعي وإنشاء منطقة محررة محميّة في الجنوب تشكل فيها حكومة مؤقتة تحرم صدام من موارد النفط. وكان وولفوفيتز يردد "لقد نجحنا في خلق مقاومة للاتحاد السوفيتي في أفغانستان، ونحن قادرون على خلق مقاومة في بلد عربي أيضا".

واستعرض الكاتب في الفصل الرابع كيف اقنع الصقور في وزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي الرئيس بوش بضرورة إعطاء الأولوية لإسقاط نظام صدام حسين، إذ لعبوا على وتر أن عليك يا بوش أن تحمي الشعب الأمريكي من هجوم ثانٍ على الأرض الامريكية تستخدم فيه أسلحة التدمير الشامل التي قد يقدمها صدام حسين للإرهابيين، وإن "النظام العراقي يبقى خطرا ما دام صدام في السلطة"، بينما كان رأي وزارة الخارجية عدم الدفع باتجاه غزو العراق كون "صدام أضعفته العقوبات والمفتشين". وانه "لا يمثل خطرا مميتا على السياسة الامريكية، وأن آذاه يتمثل في حملته الإعلامية التي تتهم أمريكا تقتل أطفال العراق".

وأشار الكاتب الى أن بوش كان يفضل "مواصلة دبلوماسية القسر وضمان نزع سلاح العراق ومغادرة صدام للسلطة بدون حرب" (ص 466).

ويشير الكاتب في هذا الفصل إلى أثر النجاح السريع للحملة الامريكية على أفغانستان على دفع بوش لاتخاذ قرار غزو العراق، وأشار الى تغنّي رئيس الأركان الجنرال مايرز (Myers) بانتصارات أمريكا على طالبان وقوله "لقد طورنا أسلوبا جديدا لخوض الحروب وكانت لدينا الجرأة لاستخدامه، وخلال ثلاثة أشهر اسقطنا طالبان وحررنا ملايين الأفغان".

ويذكر في نفس الصفحة أنه على خلفية انتشار الأنثراكس والاحتفالات بتحرير أفغانستان انفرد بوش برامسفيلد بعد اجتماع مجلس الأمن القومي يوم 21 تشرين الثاني وسأله اين وصلت استعداداتكم في خطة العراق، وفرح الصقور بهذا السؤال واعتبروا أن بوش موافق الآن على تنفيذ خطة غزو العراق.

واستشهد الكاتب في الصفحة (288) بما كان يقوله الصقور مثل كوندوليزا رايس وولفوفيتز وهادلي لتخويف بوش من خطر صدام حسين "إذا استطاع 19 سعوديا باستخدام شفرة قطع الكارتون أن يفعلوا ما فعلوه في 11/9 فتصور ماذا يمكن أن يفعله صدام حسين الذي يطور أسلحة التدمير الشامل ويدعم الإرهاب".

 

3- استعرض الكاتب في الصفحتين 711-712 نتائج الغزو الكارثية على أمريكا، وكيف انها تسببت في عبء انساني ومالي واقتصادي ونفسي على الولايات المتحدة لم يكن يتصوره أحد، فقد حجّمت القوة الامريكية وفرقت الشعب الأمريكي وزادت من شعور العداء لأمريكا في الخارج، كما انها زادت من قوة ايران في الخليج وحولت الاهتمام والموارد من الحرب الداخلية في أفغانستان، وزرعت الخلافات بين حلفاء أمريكا الاوربيين واعطت للصين فرصة إضافية للنهوض، وحفزت الانتقام الروسي.

وقال إن العواقب المأساوية للغزو شكلت حقبة جديدة في التاريخ الأمريكي وإن آثارها السياسية والاقتصادية والنفسية ستبقى قائمة. وحمّل الشعب الأمريكي مسؤولية الذهاب الى الحرب ضد العراق، وليس بوش ومستشاريه والكونغرس فقط. وذكر في الصفحة (471) الآتي: "ورغم ان إلقاء اللوم على بوش ومستشاريه على هذا المسار الأليم هو أمر صحيح، ولكن الفشل في التصرف بعد احداث الحادي عشر من أيلول يجب ان لا ينسب الى الرئيس وحده أو حصره بالرئيس وادارته، فالشعب الأمريكي بغالبيته ساهم في ذلك، إذ أن 72% من الشعب الأمريكي دعموا قرار الرئيس أخذ الأمة الى الحرب في أواسط آذار 2003". وعرض الكاتب تداعيات حرب العراق على جميع نواحي الحياة والاقتصاد والنسيج الاجتماعي والنظام السياسي في امريكا، وذكر في الصفحة (712) الآتي "عبء الحرب البشري والمالي والاقتصادي على الولايات المتحدة كان باهظا بما لم يكن أحد يتصوره، فقد أودت الحرب بحياة حوالي تسعة آلاف جندي ومتعاقد وجرح أكثر من (32) ألف امريكي خلال العلميات، وعدة مئات من الآلاف من الجنود الذين خدموا في العراق وتقاعدوا لا زالوا يعانون من إصابات في الدماغ أو من ضغوط ما بعد الصدمة، وان نسبة الانتحار بينهم عالية بنسبة خطيرة. وبالمجمل، فإن الحرب ستكلف دافعي الضرائب الامريكان أكثر من (2) تريليون دولار، كما أن الحرب شتتت الانتباه عن التلاعب المتزايد في سوق المال الامريكية (وول ستريت) والأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي عجلت بحصول أسوأ انكماش اقتصادي أمريكي منذ الانكماش العظيم (1929-1933). والمحزن أيضا أن الحرب فرّقت أمريكا بدلا من ان توحدها، وعمقت الخلافات الحزبية وقوّضت الثقة بالحكومة، لإن الشعب الأمريكي رأى أن بوش ومستشاريه كذبوا بشأن دوافعهم لشن الحرب وتصرفوا بطريقة غير كفوءة، ولذا أصيب الشعب الأمريكي بخيبة الامل من قادته ومؤسساته".

 

4- في الفصل الثالث الخاص بعرض احداث (11/9) أشار قي الصفحة (225) الى انتشار رسائل الأنثراكس في أمريكا ودورها في دفع بوش لاتخاذ قرار غزو العراق، وذكر في الصفحة الآتي "في الثامن عشر من سبتمبر، وفي وسط الفوضى والقلق أخذت رسائل بريدية تحمل مسحوق الأنثراكس تنتشر في الولايات المتحدة، وبعضها مصحوب برسالة تقول "لن تستطيعوا ايقافنا، لدينا الأنثراكس، أنتم تموتون الآن، انتم خائفون، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، الله أكبر".

وذكر في الصفحة (458) "بعد أسبوع من هجوم 11/9 بدأت رسائل الأنثراكس البريدية توزع في فلوريدا ثم في واشنطن وقتلت أناسا وعرقلت عمل دوائر البريد وأغلقت مؤسسات حكومية، بل ودقت جرس الإنذار في البيت الأبيض نفسه عندما سجلت مؤشرات على وجود رسائل فيها انثراكس".

ورأى الكاتب أن انتشار الأنثراكس بعد أسبوع فقط من 11/9 كان عاملا حاسما أنهى تردد بوش ودفعه لاستخدام القوة ضد أفغانستان ثم العراق. وقال في الصفحة (714) "تغلب لدى بوش ومستشاريه الخوف على الحذر، وتغلبت القوة الامريكية المرعبة على الحكمة. ومنعتهم الغطرسة من فهم الشعب الذي يدّعون انهم ذاهبون لمساعدته".

وأضاف "إن مما عزز الخشية من استخدام الأنثراكس في هجمات قادمة ضد الأرض الامريكية مقالات صحيفة بابل العراقية، منها مقالها في 20/9 الذي قالت فيه "ان هناك احتمال ان تتحول الهجمات على أمريكا الى الأسلحة البيولوجية. وفي يوم 8/10 وبعد وفاة أول امريكي بالانثراكس قالت صحيفة بابل "ها هي أمريكا تتجرع السم من نفس الكأس الذي سقته للآخرين"

وجدير بالذكر أن الكتاب تجاهل الإشارة عمن كان وراء نشر رسائل الأنثراكس وفي هذا التوقيت بالذات، ولم يشر الى نتائج تحقيقات الحكومة الامريكية حول الموضوع، وسنشير الى ذلك في ملاحظاتنا على موضوع الأنثراكس.

كما أشار الكتاب الى أن من أرادوا حث بوش على استخدام القوة ضد العراق لم يكتفوا بموضوع الانثراكس، بل استمروا في التحريض لغاية يوم الغزو، وأضافوا الى الاتهامات موضوع أنابيب الألومنيوم (التي ادعوا ان العراق استوردها لصناعة الصواريخ وثبت بطلان الادعاء)، ووثائق استيراد الكعكة الصفراء من النيجر (التي زورتها المخابرات الامريكية) وإفادات اللاجئ العراقي المسمى (الكرة المستديرة) ومزاعم المختبرات البيولوجية المتنقلة ودعم العراق للإرهاب، ومحاولة اغتيال بوش الأب.

 

5- لم يكن الكاتب متعاطفا مع العراق او مع الرئيس صدام حسين، بل على العكس كرر في الفصل الأول الذي عنوانه "صدام حسين" جلّ ما ورد بحملة شيطنة العراق وصدام حسين من أكاذيب واتهامات بالبطش بالمعارضين وعبادة الفرد وشن الحرب على ايران واستخدام الأسلحة الكيمياوية ضد العراقيين، لكنه وقع بتناقض في نفس الفصل عندما ذكر في الصفحة (44) "عمل صدام على تحديث العراق وجعله أقوى ومكتفٍ ذاتيا، واهتم بإبراز تاريخ العراق الحضاري وبوحدة العالم العربي" وذكر في الصفحتين 57 - 58 "استخدم صدام الفائض المالي المتولد من تأميم النفط لتحديث وتنويع اقتصاد العراق واطلق حملة للإصلاح وكهربة الريف وانشاء شبكة للسكك الحديد ومصنع للفوسفات وطور صناعة الالبان وحقول الدواجن واستثمر في صناعة الحديد والأسمدة والبتروكيمياويات ودعا العلماء والتقنيين من جميع انحاء الوطن العربي وقدموا افواجا للمساهمة في تحديث البلد وتنميته وانفق الأموال لبناء المدارس والمستشفيات، وعمل على اجتثاث الأمية وتوفير عناية طبية ذات مستوى رفيع ودعم القطاع الخاص". وأضاف في الصفحة (70) "كان صدام متيقنا من شيئين، الأول هو أن للعراق مكانة مميزة في التاريخ، والعراق لن يموت، والثانية هي ان عليه أن يعيد صنع ذلك التاريخ". قال في الصفحة (55) "هدف صدام هو تعزيز قوة العراق وتوحيد العالم العربي وإزالة إسرائيل من الشرق الأوسط والتصدي لشيعة ايران".

كما ذكر في الفصول اللاحقة شهادات مسؤولين امريكان بعد الغزو عن شخصية الرئيس صدام، واستشهد بتشارلز دولفير نائب رئيس لجنة التفتيش الذي اعد تقرير (مسح العراق) بعد الاحتلال، إذ ذكر دولفير في الصفحة (454) “صدام ليس شخصية كارتونية. كان لامعا بطريقة مذهلة وبالغ الذكاء بطريقة سوداوية مثل ستالين. كان صدام مهووسا بصنع إرثه، ويطمح أن يكون مثل نبو خذ نصّر وغيره من عظماء العراق. طموحه كان واضحا: التصدي لإسرائيل واسقاط إيران والسيطرة على المنطقة".

 

6- في الفصل الثامن بعنوان (التصميم) يفضح الكاتب دور هانز بليكس رئيس لجنة التفتيش عن الأسلحة (الأنموفيك) في التحريض على غزو العراق، وقال في الصفحة (394): "كان بلير يريد اسقاط صدام حسين لكنه كان يخشى الرأي العام البريطاني المعارض للذهاب الى الحرب، ولذلك سعى لاستصدار قرار من مجلس الأمن يوجه انذاراً لصدام، فإذا خضع صدام أو هرب فيمكن تجنب الحرب، وايّد هانز بليكس هذه المقاربة، ورأى بليكس أن صدام لا يزال منخرطا في أنشطة محظورة وأن المزيد من الضغط العسكري لربما يدفعه لأن يتجاوب أكثر". كما أشار الى أن بليكس يرى ان صدام يماطل ويستفز ويمنع عمل المفتشين". وقال في الصفحة (394) "كان بليكس يؤمن بأن الضغط العسكري يبقى عنصرا أساسيا للضغط على صدام لتقديم تنازلات". وأشار في الصفحة (54) الى أن بليكس قال "إن الوثائق التي قدمها العراق لا تحتوي على بيانات يمكن أن تساعد في حل المسائل العالقة" واضاف في الصفحة (397) "قال بليكس انه يحتاج الى المزيد من الوقت لكن بوش وباول وكوندوليزا رايس قالوا له ان اللعبة انتهت- The Game is Over”.

 

7- اقر الكاتب بفشل إدارة بوش في فهم الحقائق على الأرض وتفسير أسباب غضب المسلمين على سياسات امريكا، وقال في الصفحتين (472-473) "بوش ومستشاروه، مثلهم مثل اغلب الشعب الأمريكي لم يستوعبوا مطلقا حقيقة أن معاداة أمريكا التي اخذت تستفحل في العالم الإسلامي لم يكن سببها كره العرب للقيم الامريكية بل نتيجة غضبهم من الأفعال الامريكية ومن ذلك دعم واشنطن للأنظمة القمعية، وتبنيها لإسرائيل، وعقوباتها على العراق، ونشر قواتها في الأراضي المقدسة الإسلامية، وسعيها للهيمنة على اقليمهم، كما لم يستطيعوا ان يفهموا كيف ان السجون والمعتقلات السرية لوكالة المخابرات الامريكية والتعذيب بطريقة الايهام بالإغراق واهانة السجناء من قبل مجندات امريكيات مسيحيات شقراوات كانت كفيلة بتقويض أي حديث عن الحرية وحقوق الانسان وكرامة البشر".

 

8- في الفصل العاشر يلخص المؤلف نتائج العزو الأمريكي للعراق بالقول” عندما لا يُعثر على أسلحة الدمار الشامل ويواجه الاحتلال بتمرد، تكون النتيجة تآكل الدعم الشعبي للحرب في الداخل وارتفاع معاداة أمريكا في الخارج وهكذا شكلت العواقب المأساوية للغزو حقبة جديدة في التاريخ الأمريكي". وأورد الكاتب اعتراف رئيس فريق التفتيش عن أسلحة التدمير الشامل العراقية بعد الاحتلال "ديفيد كي" أمام لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي بقوله "دعوني أقول لكم نحن جميعا كنا خاطئين بشأن أسلحة التدمير الشامل العراقية".

 

9- في الخلاصة ذكر الكاتب في الصفحتين 456-457 الآتي "سياسة بوش إزاء العراق كانت سيئة، وهذا يحتاج الى مزيد من التحليل الصارم يفوق ما قدمه الباحثون والناقدون والصحفيون لحد الآن". وأضاف "كان لدى بوش الكثير من القدرات الإيجابية لكن مساعديه خذلوه، وكانت قدراتهم متواضعة وهو خولهم الكثير من السلطات وبأكثر مما يجب، ولم يراقب تنفيذ السياسات التي اختطها، ولم يأمر من حوله بعمل أمور أو ينتقدهم لفشلهم، ولم يصر على سياق عمل صارم، بل ترك الأمور سائبة في "أرض العجائب" البيروقراطية في واشنطن، وأدت الى تداعيات خطيرة". وأضاف "تجاهل بوش المشاحنات السلبية بين مساعديه والتي كانت حدتها تتجاوز المسائل الشخصية وأثرت بصورة سلبية على سياساته". ويرى الكاتب أن النقاش لا زال قائما عن سبب ترك بوش الأمور تسير بهذه الطريقة، فالبعض يعتقد أن بوش اتخذ القرار منذ البداية بغزو العراق لذلك لم يسأل مساعديه هل ان غزو العراق فكرة جيدة، بينما يرى مساعدوه القريبون أنه لم يقفز الى هدف غزو العراق، بل كان يفضل استمرار دبلوماسية القسر ضد العراق، ثم سارت الأمور بغير ما يشتهي.

وأشار الكاتب في الخلاصة الى غرور القوة والغطرسة التي سيطرت على العسكريين والسياسيين الامريكان بعد غزو افغانستان وقال "إن استخدام القوة الجوية والقوات الخاصة والتقنيات الحديثة لطرد طالبان من كابل عزز إحساس بوش بالقوة وبأن طموحات أمريكا لا حدود لها، فطالما استطاعت أمريكا أن تؤسس حكومة في كابل فلماذا لا تستطيع ذلك في بغداد وفي عواصم أخرى".

ويرى الكاتب في خلاصته إن "خصال صدام السيئة ومنها دعمه للانتفاضة الفلسطينية وللانتحاريين الفلسطينيين وتحديه الهيمنة الامريكية في الشرق الأوسط كانت من أسباب تدهور الموقف، وان صدام لم يفعل الكثير لتطمين بوش انه يريد بداية جديدة". ولكنه يتساءل بالمقابل "ولكن هل هذه الأسباب كانت كافية للذهاب الى الحرب".

 

ثانيا: الملاحظات على الكتاب:

1- المعلومات والوثائق والمقابلات الواردة في هذا الكتاب قدمت دليلا إضافيا على أن مقاومة شعب العراق الحقت أقسى هزيمة بأمريكا منذ تأسيسها عام 1776. وإن انتصار شعب العراق على أمريكا كان حدثا مفصليا في تاريخ العالم، فمثلما انهت حرب السويس عام 1956 عصر الامبريالية البريطانية، ومثلما أسقط المستنقع الافغاني الاتحاد السوفيتي، فإن حرب أمريكا على العراق وهزيمتها فيه أنهت، والى الأبد، نظام القطب الواحد، وفتحت الباب لعالم متعدد الأقطاب بعد أن قوضت اركان الغطرسة والهيمنة الامريكية على العالم. وجدير بحكومات وشعوب العالم ان تقدر للعراق هذا الفضل، وتدعم انتفاضة شعبه لإنهاء ما تبقى من مشروع الاحتلال المتمثل بميليشيات ولاية الفقيه وإعادة السلطة لشعب العراق.

 

2- لقد دفع العراق ثمنا باهظا في معركته لمعاقبة المعتدي المتجبر، لكن هذا هو قدر العراق. قدره أن يكون بانياً للحضارة وهازما لأعداء الحضارة. لم يخض العراق هذه الحرب إلاّ اضطرارا، وأمريكا بنت حساباتها على موازنة القوة المادية، ورأت أن تغيير النظام السياسي في العراق أمر سهل وسبق لها أن جربته في دول كثيرة أخرى، واكتشفت أن العراق عصي على الغزاة، حتى وإن كان الغازي أمريكا قائدة النظام الدولي ومعها ستين دولة، وليس قوى إقليمية كالمغول او الفرس. تغنى العراقيون بأهزوجة "صدام اسمك هزّ أمريكا" أيام الاستعداد لمواجهة أمريكا الغازية وسخر منا كثيرون، ويوما بعد يوم تتكشف المزيد من الحقائق كيف أن العراق وصدام هزّوا وهزموا أمريكا فعلا ولا زالت وستظل أمريكا تعاني من بأسنا، وسيبقى العراق واسم صدام يهز عروش البغاة.

 

3- أشار الكتاب الى أن بوش كان قلقا وخائفا من مساءلة شعبه لإن معلومات قدمت لإدارته حول احتمال حصول هجوم إرهابي كبير على الأرض الأمريكية ولم يتابعها كما يجب، فقد طلب تقديم تقارير له عن مخاطر القاعدة على أمريكا، وقدمت له تقارير لم يكن فيها جديد، ثم توقفت التقارير من أوسط تموز الى يوم 11/9 (الصفحتان 107-108من الكتاب). وهذا يؤكد أن أطرافا في الإدارة الامريكية وبالذات في وكالة المخابرات الأمريكية ومكتب التحقيقات الفيدرالي تعمدت عدم ابلاغ الرئيس عن مخاطر استهداف تنظيم القاعدة للمدنيين على الأرض الامريكية، وبالتأكيد فإن "غزوة مانهاتن" ما كانت تنفّذ لولا تواطؤ المؤسسة الأمنية الأمريكية التي كانت تعرف وجود النية لتنفيذ هذه العملية واطلعت على بعض تفاصيلها لكنها لم تجهضها ولم تلق القبض على المشتبه بتخطيطهم لها لأنها رأت فيها الفرصة الذهبية لتوريط متطرفين مسلمين في عمل إرهابي كبير يستثير الغرب بأجمعه ضد الإسلام والمسلمين. نتنياهو شرح هذا المخطط في كتابه (الإرهاب: كيف يمكن للغرب أن ينتصر) الصادر عام 1996 حيث قال (من أجل أن يربح الغرب المعركة ضد الإرهاب الإسلامي لا بد من كسب الولايات المتحدة، وإن الولايات المتحدة لن تقتنع بضرورة محاربة الارهاب الإسلامي إلاّ إذا تعرضت مصالحها لخطر هجمات مباشرة) وأضاف (لم يكن من السهل إحداث تغيير في تفكير صانعي القرار الأمريكيين حول هذا الموضوع، لإن وجهة النظر المهيمنة في الولايات المتحدة في السبعينيات والثمانينيات كانت تقول إن الارهاب هو نتيجة اضطهاد سياسي واجتماعي ولا يمكن القضاء عليه من دون انهاء هذه الأوضاع).

وللمزيد حول هذا الموضوع يمكن الاطلاع على مقالة (الإسلام المتطرف والغرب العنصري: قراءة في ظاهرة القاعدة وبن لادن لعبد الواحد الجصاني).

 

4- استعرض الكتاب كيف ان انتشار رسائل الأنثراكس في اربع ولايات أمريكية بعد أسبوع من احداث 11/9 عجّل بقرار بوش استخدام القوة ضد العراق، وهنا يقدم الكتاب دليلا إضافيا على أن نشر رسائل الأنثراكس وتوقيت هذا النشر وسقوط ضحايا امريكان كان جزءا جزء من عملية هدفها تخويف الشعب الأمريكي والرئيس الأمريكي ودفعهم للحرب على أفغانستان والعراق والأمة الإسلامية حيث يعتبر المحافظون الجدد أن الاسلام هو أكبر تحد أيديولوجي لليبرالية الديمقراطية الغربية بعد سقوط الشيوعية. واختيار الأنثراكس دون سواه من أسلحة الدمار الشامل سببه ان الإدارة الأمريكية قررت أن يكون العراق هو الهدف التالي للغزو بعد أفغانستان. والتحقيق الذي أجرته السلطات الامريكية حول من نشر الأنثراكس أخذ وقتا طويلا وانتهى بإعلان وفاة العالم الأمريكي المتخصص في مجال الأسلحة البيولوجية بروس إيفنز في آب 2008، وأصدرت وزارة العدل الأمريكية بيانا قالت فيه إن العالم إيفنز كان المتهم الوحيد في سرقة الأنثراكس من مستودعات الجيش واستخدامه في هجمات رسائل الأنثراكس التي حصلت في ثلاث مدن أمريكية بعد ثلاثة اسابيع على هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 والتي قتلت خمسة مدنيين أمريكان واصابت العشرات، وأضافت وزارة العدل الأمريكية أنها ستغلق ملف هجمات الأنثراكس لوفاة المتهم الوحيد فيها.

للمزيد من التفاصيل حول رسائل الأنثراكس يمكن الاطلاع على المقال: (لماذا استخدم بوش سلاح تدمير شامل ضد شعبه لبعد الواحد الجصاني).

 

5- استعرض الكاتب تصريحات رئيس لجنة التفتيش (انموفيك) هانز بلكيس التي حرّض فيها على استخدام القوة ضد العراق وادعى إخفاء العراق لبرامج محظورة، وهذا تأكيد جديد على أن رؤساء لجان التفتيش والمفتشين الرئيسيين لم يكونوا موظفين دوليين، بل منفذين للسياسة الامريكية العدوانية ضد العراق، وإن الولايات المتحدة استخدمت الأمم المتحدة أداة لتنفيذ سياستها العدوانية ضد العراق، وانتهكت بذلك ميثاق الأمم المتحدة الذي يقول في المادة (100): (ليس للأمين العام ولا للموظفين أن يطلبوا أو يتلقوا في تأدية واجباتهم تعليمات من أية حكومة أو أية سلطة خارجة عن الهيئة، وعليهم أن يمتنعوا عن القيام بأي عمل قد يسيء الى مراكزهم بوصفهم موظفين دوليين مسؤولين أمام الهيئة وحدها).

وجدير بالذكر هنا أن رؤساء فرق التفتيش بليكس والبرادعي وإيكيوس ألّفوا كتبا بعد غزو العراق حاولوا فيها التبرؤ من تهمة التواطؤ مع الولايات المتحدة لغزو العراق من خلال تقاريرهم التي تشكك بتنفيذ العراق لالتزاماته في مجال أسلحة التدمير الشامل. وكتاب بليكس نشر عام (2004) وعنوانه (نزع سلاح العراق) وكتاب البرادعي (سنوات الخداع) نشر عام 2011، وكتاب ايكيوس نشر في كانون الأول 2022 وعنوانه (العراق منزوع السلاح). وحتى السفير الأسترالي العنصري الأحمق ريتشارد بتلر الذي تولى رئاسة اللجنة الخاصة بين عامي 1997-1998، والذي كان أكبر المحرضين على استهداف العراق، طالب بعد الغزو باستقالة رئيس وزراء استراليا ووزير خارجيتها لأنهم خدعوا الشعب الأسترالي بالمشاركة في الغزو بناء على مبررات كاذبة!!!

6- لقد جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليغيّر الخطاب السياسي للولايات المتحدة، ففيما عدا حالة "غزو الكويت" كانت الولايات المتحدة تتجاهل وتتجنب الإشارة الى مبادئ ميثاق الأمم المتحدة الخاصة بمساواة الدول في السيادة والسلامة الإقليمية للدول وعدم جواز استخدام القوة أو التهديد باستخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة. وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا أصبحت الولايات المتحدة، فجأة، من أشد المدافعين عن هذه المبادئ، وأضافت اليها ضرورة مساءلة مرتكبي العدوان عن جرائمهم على أراضي أوكرانيا وكفالة انصاف جميع الضحايا ومنع وقوع جرائم في المستقبل (أنظر قرار الدورة الاستثنائية الطارئة للجمعية العامة "A/ES11/L.7" بتاريخ 23 شباط 2023 الذي قدمته الولايات المتحدة والدول الغربية). كما تواترت تصريحات المسؤولين الامريكان عن ضرورة محاسبة مرتكبي جريمة العدوان، وآخرها تصريح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يوم 3 آذار 2023 في نيودلهي الذي قال فيه “إذا سمحنا لروسيا أن تفعل ما تفعله في أوكرانيا وتفلت من العقاب، فتلك ستكون تلك رسالة لكل مرتكبي العدوان المحتملين في كل مكان أنهم قادرون أيضا على الإفلات من العقاب".

إن إقرار المسؤولين الامريكان بالحاجة لمحاسبة مرتكبي جريمة العدوان وحق ضحايا العدوان بالتعويض يزيد من القبول الدولي لمطالبات العراق لأمريكا بالمساءلة والتعويض عن احتلالها للعراق، وهو جريمة عدوان مكتملة الأركان. إن حق العراق في محاكمة المجرمين المسؤولين عن غزو العراق، وطلب الحصول الى التعويضات هي حقوق أصيلة كفلها القانون الدولي ولا تسقط بالتقادم طبقا لاتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتبكة ضد الإنسانية لعام 1968، كما أنها تمثل حقوق شعب كامل وأجياله القادمة وهي غير قابلة للمساومة أو التفريط بها، وعندما تقام سلطة الشعب في العراق المحرر سيكون لممثلي الشعب تقرير آلية المطالبة بالتعويضات ومحاسبة مجرمي الحرب.

والله المستعان

بغداد في 5/3/2023

ملاحظة: أرقام الصفحات الواردة في المقال تستند الى النسخة الالكترونية من الكتاب، وهي تختلف عن ترقيم الصفحات في النسخة الورقية التي لم تصل بعد الى الأسواق العربية.

المنبر الثقافي

شبكة البصرة

الاربعاء 16 شعبان 1444 / 8 آذار 2023

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط