بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الأغاني كلها تخذل كاظم السعدي

شبكة البصرة

كرم نعمة

كاظم السعدي يتأمل اليوم وحيداً كفيه المرتجفتين بعد أن غادر الأهل بعيداً إلى الولايات المتحدة، ولم تعد القصيدة بعكازها ليتكئ عليها.

قبل عقود، بينما بدأ الوهن يدب في تعبيرية الأغنية العراقية، أدخلت صديقي الشاعر كاظم السعدي، بوصفه من بين أبرع صاغة قلادة الأغنية، في شراك “لعبتي الصحافية” وسألته: كم تتحملون أنتم الشعراء من وزر شيوع الرداءة الغنائية؟

كان ذلك في وقت لم تصل فيه بعد الأغنية العراقية إلى تلك الرثاثة التي لا تمت بصلة إلى علوم الغناء.

أجاب السعدي بثقة: لا نتحمل أي وزر شعري في ذلك، بل لأن التغيير هو طبيعة الحياة، والغناء جزء منه.

كان لديه ما يدافع به عن هذا الكلام، فقد كانت آنذاك أغنيته الرائعة “ياعين وتقولين خل نسامحه” التي لحنها الموسيقار سرور ماجد لصوت قاسم إسماعيل، لم يمض عليها وقت طويل. قال: أجبني لماذا لم تحظ تلك الأغنية بما يليق بعمقها التعبيري كما كان يحصل مع أغاني عقدي الستينات والسبعينات؟

أستعيد تلك المحاورة بينما السعدي يرقد اليوم حائراً في مدينة أربيل بانتظار من يمد إليه يد الرجاء، فقد وهن العمر وكسره الحزن وخيبة السنين وأصيبت القصائد بالنحول وأهلكه المرض. مثل حسين مردان عندما خذله قلبه كان يخاطبه “آه يا قلبي المسكين، في مثل هذا العمر تخذلني؟”.

الجمهور العربي يعرف كاظم السعدي من عشرات الأغاني التي كتبها لكاظم الساهر وهاني شاكر ووليد توفيق وأصالة نصري وعاصي الحلاني وحسين الجسمي وراشد الماجد وأصيل هميم وديانا حداد…، لكن ليس كل هذا الجمهور يعرف أن السعدي الذي كتب عشرات الأغاني بما فيها الأناشيد الوطنية إبان الحرب العراقية الإيرانية، لو أكتفي من تاريخه بخمس أغاني، فإنه لن يغادر مكانته بين كبار صاغة قلادة الغناء الفضية.

قبل أغنية “ياعين” توج الموسيقار الراحل محمد جواد أموري صوت أنوار عبدالوهاب بقصيدتين للسعدي تحملان من التساؤل الملتاع ما يجعلهما عصيتين على الموت، لكن من قال إن الأغاني تموت؟

السيد العظيم يوتيوب يوفر لنا أغنية “ياهلا” وفي تصوريها العتيق بالأبيض والأسود، فقد حملت أنوار عبدالوهاب فانوس البحث عن حبيبها كعاشقة في الأهوار وحولها يدور الصيادون في زوارقهم. ومن يعود إلى تلك الأغنية يشعر ما معنى أن يكون الشاعر غنائياً، وكيف للملحن أن يستل بالكمانات الهائمة أرواح المفردات؟

عاد بعدها أموري واختار قصيدة أخرى للسعدي ولصوت أنوار أيضاً “مرات أفرح من صحيح/ومرات أحزن من صحيح/ومرات أدق روحي على بابك/ومرات أسليها بغيابك”، تلك الأغنية المثقلة بتاريخ من التساؤل الموجع بقيت فاصلة في تاريخ الغناء، وكلما تسنى لفنان أن يغنيها تردد هائماً بلحنها، فأعاد غناءها لاحقاً قحطان العطار ثم سعدون جابر.

من ينسى تساؤل السعدي “نحب لو ما نحب” عندما جمع الموسيقار جعفر الخفاف صوتي سعدون جابر وسيتا هوكبيان، في ثنائي بقي شاهداً على ألمعية الأغنية العراقية.

أما الأغنية الخامسة فقد ولدت في بداية انكسار الأغنية العراقية في عام 1990، لتعيد مجدها التعبيري. فطالما شكل السعدي مع الموسيقار كريم هميم ثنائياً لا يمكن لأي عاشق إلا أن يمر عليهما. لحّن كريم لصوت مضر محمد “أنا من ظلمك أغني/من عذابات السنين/أشكرك ما خاب ظني/صار كل شكي يقين”، ولدت هذه الأغنية لتعيد الأمل إلى الذائقة السمعية بعد أن أوشكت على فقدانه.

ذلك هو السعدي الذي يتأمل اليوم وحيداً كفيه المرتجفتين بعد أن غادر الأهل بعيداً إلى الولايات المتحدة، ولم تعد القصيدة بعكازها ليتكئ عليها. يترقب الأصحاب المتباعدين والمطربين وهم يرفلون بترفهم، بينما هو من ساهم في صناعة مجدهم. ويسألني في آخر رسائله “أبحث عمن ينقلني إلى المستشفى، يا كرم، وقد دب الوهن في جسدي وفقدت صوتي”.

تبا للأغاني والقصائد والحياة معهما!

العرب

شبكة البصرة

الاحد 4 رمضان 1444 / 26 آذار 2023

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط