بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الهوة بين الأجيال

شبكة البصرة

أ. د. محمد طاقة

أصبحت الهوة بين الأجيال، تمثل معضلة مهمة في حياتنا، ومعضلة جديرة بالاهتمام مما لها من آثار سلبية على العلاقة بين جيلين، بحيث اثارت هذه المعضلة نقاشاً وجدلاً واسعاً، كما ان مشكلة الأجيال انتشرت بشكل كبير بسبب تعدد المشاكل على مستوى العائلة الواحدة والمجتمع بشكل عام، وان سبب هذه المعضلات هو التباين في العادات والتقاليد وأساليب نمط الحياة والثقافة وغيرها بين الجيل الجديد والجيل الذي يسبقه، ان وجود هذا التباين بين الأجيال مسألة طبيعية وموضوعية تعيشها البشرية منذ فترات طويلة، وعلينا ان لا نستغرب من وجود هذا الصراع بين الأجيال، كونه نتيجة طبيعية لاختلاف التفكير ووجهات النظر بين الإباء والابناء بسبب اختلاف البيئة فلكل زمان ومكان بيئته الخاصة به ويعرف هذا الاختلاف بفجوة الجيل المسببة للصراع.

ففجوة الجيل هي النتيجة الحتمية للتطور الاجتماعي البشري، والتغيرات التي تطرأ على نمط الحياة مع تقدم الزمن، لذلك لا يمكننا من ان نوقع اللوم على أي طرف عند حدوثها، ومع ذلك يبقى الجيل القديم يتمتع برجحان العقل (أي الابوين) وعليهم العمل على ردم هذه الهوة.. ونقصد هنا بالجيل، هو عبارة عن مجموعة من الافراد الذين ولدوا وعاشوا في فترة زمنية محددة، او الفترة الزمنية الفاصلة بين ولادة الإباء وولادة أبنائهم، وتقدر هذه الفترة ما بين 20 – 35 سنة ومؤخراً يقدرها البعض من 20 – 25 سنة، أي بإمكاننا القول من وجود بنحو ثلاثة أجيال في القرن الواحد.. كما ان الهوة بين الأجيال تمثل الهوة التي تفصل بين سياقات التفكير والمعتقدات والعادات والتقاليد والاذواق والثقافة بشكل عام بين جيلين او اكثر!!

وعلى هذا الأساس فعلماء الاجتماع وعلم النفس عرفوا صراع الأجيال بانه الاختلاف بالرؤى بين جيلين، جيل الشباب وجيل الكبار. واضطراب هذه العلاقة وفي بعض الأحيان تأزمها، فالإباء يتهمون الأبناء بانهم لا يحترمون القيم ولا يحترمون العادات والتقاليد السائدة في زمنهم، ويعتبرونهم قليلي الخبرة ولا يعترفون بأراء وخبرة الكبار.. ومن جهة أخرى فان الأبناء يتهمون الاباء بانهم لا يفهمون وانهم متخلفون عن ما يجري من حولهم من تطور. لذا نلاحظ ان صراع الأجيال ينطوي على تناقض الآراء وتنافر التصرفات بين جيلين..

كما اننا نلاحظ ان هذه الهوة لم تكن كبيرة وواسعة بين الأجيال السابقة، أي قبل التطور العلمي التقني الذي حدث خلال السنوات القليلة السابقة، حيث كانت تلك الأجيال متماسكه ومرتبطة مع بعضها البعض والابناء كانوا ينسجمون مع ابائهم كونهم كانوا يعشون بمجتمعات مغلقة نسبيا..

اما اليوم ونتيجة التطور العلمي التقني وعلى وجه الخصوص التطور الذي حصل على علوم الحاسبات والانترنيت والهواتف النقالة وما تبعها من تطورات هائلة على وسائل التواصل الاجتماعي ودخول العالم كله الى عالم الرقمية والعالم الافتراضي.. ورغم ان لكل عصر خصائصه، وكل يرى ان عصره يحظى بأهمية اكثر من غيره، فالأجيال الجديدة يرون ان العصر الذي يعيشونه فيه يتمتع بخصوصية نادرة، كونهم يعيشون في العصر الذهبي عصر التقدم التكنولوجي عصر الانترنت والـ (5G) وعصر الرقمنة والعالم الافتراضي. كل ذلك ساعد على زيادة الهوة بين الجيلين، بسبب ما ذكرناه من تطور متسارع لم تشهد له الحقب السابقة، فأصبحت الهوة مخفية جداً بحيث لم تتمكن الأجيال السابقة من التكيف او استيعاب هذا التطور الهائل الذي حدث في العالم، ولهذا بدأ الصراع بين الجيلين يتسع وقد يصل الى حد التناقض التناحري، أي سيعمل الجيل الجديد الذهبي على ان يجعل من الجيل القديم خارج التاريخ كون الفجوة العمرية هي من اكثر الفجوات اتساعاً، وعمقت الاختلافات بحيث اصبح من غير الممكن ردم هذه الهوة على المستوى الفكري والثقافي والسياسي وحتى اللغوي..

ان التطور العلمي والتقني الذي تعيشه الأجيال الجديدة سهل عليها الانفتاح على شعوب وثقافات العالم والاطلاع عليها والاخذ منها والتفاعل معها، مما أدى هو الاخر على زيادة الهوة بين الجيل الذهبي والجيل القديم الذي لا زال متمسكاً بعادات وتقاليد وسياقات عمل اكثرها ما عاد ينسجم مع متطلبات الجيل الجديد، فضلاً عن الهجرة المنظمة التي تعيشها البشرية، وسرعة الانتقال بين شعوب العالم كلها اثرت بشكل مباشر او غير مباشر على اتساع الهوة بين الجيل الجديد والقديم.

ان هذا الصراع الحاصل بين الأجيال، تشتد خطورته عندما نرى ان الجيل القديم قد هيمن ولأسباب موضوعية وذاتية على الأكثرية من مفاصل الحياة (الدولة والحكومات وكذلك على منظمات المجتمع المدني وقيادة الأحزاب السياسية)، وهذه المعضلة تعاني منها جميع الدول والحكومات والمجتمعات في العالم، ويمكننا القول ان شدة هذه التناقضات في دول العالم المتقدم هي افضل بكثير مما عليه الواقع في دول عالم الجنوب وعلى وجه الخصوص الدول العربية، كون الصراع بين الجيل الذهبي أي جيل التسعينات على أشده بسبب التمسك الشديد للجيل القديم بسياقات عمله وبثقافته وعاداته وتقاليده وكيفية فهمه للدين وممارسة طقوسه، علماً ان الجيل القديم لن يتمكن وسوف لن يتمكن الا القليل منهم على تفهم مسارات التطور التكنولوجي وفهم متطلبات الحياة ومتطلبات الجيل الجديد في هذه المرحلة من حياة البشرية، هذا اذا علمنا ان عملية التطورات التكنولوجية سريعة جداً وبالساعات والأيام بحيث اصبح من المستحيل على الجيل القديم اللحاق به، على العكس من الجيل الجديد الذي اصبح يتقن ويتعامل مع هذه التطورات الهائلة.

لذا نرى ان الهوة بين الجيلين تتعمق والهوة أصبحت سحيقة ومن الصعب تلافيها، ولكن بنفس الوقت يمكننا معالجة هذه الهوة بان تتخلى هذه القيادات سواء كانت في السلطة او في الحكومة او في المنظمات الجماهيرية او في الأحزاب السياسية عن مواقعها لصالح الأجيال الجديدة الواعدة، وبنفس الوقت بالإمكان الاعتماد على الاعمار التي تقع بين الجيلين والتي تمتلك خبرات وعادات وتقاليد الجيل القديم وبنفس الوقت تتعامل مع الجيل الجديد بروح العصر. ونكون في هذه الحالة قد حققنا حالة التوزان بين الجيلين، وكذلك على الجيل القديم ان يحاول او يصرف جهداً استثنائياً لتفهم ما يحتاجه الجيل الجديد، وتفهم ما يصبوا اليه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ان قيادة الحزب الشيوعي التي كان تقود الاتحاد السوفيتي، جميعهم كانوا من الجيل القديم حيث تجاوزت اعمارهم الثمانين، فعندما سنحت الفرصة للجيل الجديد لتبوء المواقع القيادية في الحزب، فكان ردة فعلهم انهاء دور الجيل القديم.

وهكذا سيكون حال جميع الأحزاب السياسية التي لم تفهم العلاقة بين الأجيال ولم تفهم حركة الحياة ولم تفهم اثر التطورات التكنولوجية على حركة الأجيال ولم تدرك ما يدور من حولها، فالعالم اليوم سيكون بأمس الحاجة الى الأجيال المتطورة علمياً وثقافياً وسياسا واجتماعياً، وبأمس الحاجة الى قيادات متطورة بحيث تواكب روح العصر وتندمج معه وتتفاعل معه حتى تتمكن هذه القيادات من التخلص من القيادات القديمة أي الجيل القديم والتخلص من مخلفات الماضي الذي ترعرعت فيه هذه القيادات وأصبحت حبيسة له… الخ. والا سيأتي اليوم الذي تتمكن الأجيال الجديدة من إزاحة الأجيال القديمة، وتستلم هي زمام الأمور من اجل بناء مستقبل يتعاطى مع ما يحدث من تطورات علمية وتقنية، ان موضع الصراع بين الأجيال سوف لن ينتهي وهو متسمر مع استمرار الحياة.

العراق العربي

شبكة البصرة

الخميس 8 رمضان 1444 / 30 آذار 2023

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط