بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ساحة الدواليب في المشراق عيد البصرة القديمة في الزمن الجميل

شبكة البصرة

حسين العطية

هنالك على طريق المشراق القديم كنا نتوجه اطفالا صغارا صبيانا وصبايا في الأعياد بملابس العيد الجديدة إلى (ساحة الدواليب).

فالعيد كان عندنا في البصرة القديمة أيام زمان بعد ارتداء ملابس العيد الجديدة واستلام العيدية يعني (ساحة الدواليب) التي تتوسط المشراگ القديم والمجيبرة والقبلة ففيها يقوم أصحاب الألعاب قبل أيام بنصب الفرارات ودواليب الهوى والمراجيح وغيرها من الألعاب وتهيئتها لأيام العيد ويتوجه إليها الصغار من جميع محلات البصرة القديمة وحتى من الاقضية والنواحي. و كلما اقتربنا نسمع اصوات لفعاليات لازالت تداعب الذاكرة. إنها اصوات فعاليات والعاب (ساحة الدواليب) (فوق السبعه وتحت السبعه) و (اللگو) و البنادق المغشوشة التصويب و (حظ يانصيب الفرارة) و(سحب لفافات الورق الصغيرة من الأكياس) وهذا وذاك بين أصوات تصيح (يانصيب مرة يخطي وعشره يصيب)، (حط زايد تأخذ زايد) و ترتفع أصوات أخرى من الباعة وأصحاب العربات المزينة بالصور الغريبة والجميلة (صمون وحلاوة بعانه نبيع بعشره نبيع) و (لفات العنبة) و (حميسة الفشافيش) اللفة بعشرة فلوس نقبل عليها بشهية مفتوحة وكأننا مقبلين من مجاعة أفريقيا و (سبع ألوان) و (وشعرية وشعر بنات..... وين اوللي وين ابات) و (بارد شربت تمر هند.. برد گلبك ياولد) و(اللوزينه) و(لبلبي حار او مستوى بيع امك واشتري) و(الكماتيل) و(البادم) و(الليدي ستيك) و(الكمال ستيك) و (دوندرمة بوز هذا أكل العجوز). وكان محل (عبود أبو الدوندرمة) يقع في مقدمة الشارع المؤدي للساحة وكانت (الدوندرمة) من الحليب الطبيعي الخالص الطازج وذات طعم ونكهة مميزة نتذوقها لحد الان وبقي هذا المحل حتى بعد انتهاء ساحة الدواليب وبجانبه (فرن الكعك) يقابله محل (محمود كريدي الاوتچي) الذي كان يكوي الملابس بواسطة المكواة الفحم.

 

ايقاعات حسين بتور

وتدور دواليب الهوى الخشبية المطلية حديثاً بألوانها الزاهية والتي تم نصبها على جذوع النخيل وتتعالى اهازيجنا وضحكاتنا والعاملين على الدواليب ينقرون على (الدنبك)والدفوف ويغنون (عايدوا يا اهل العيد) (دولابي على الهوى) و (دولابي عبادان) (جوه العباية نفنوف شيلي البوشيه خلي نشوف). (وراح الخواله والمطر بلله وخله يروح ما أريده) وهلم جرا. وعندما يزيد العاملون في سرعة الدولاب يتراجعون جميعهم إلى الوراء دفعة واحدة ويبقى الدولاب يدور لوحده وهم يطبلون ويغنون:(لاعلاگه ولا دينار شلون بصدر التورن تركب).

وكان الفنان الاسمر حسين بتور واخوه محمد يتناوبان بالتكسير على ايقاع الخشبة على انغام بصريه تراثية يتغنون بها والدولاب يزداد عليه الازدحام من شدة المعجبين،وهناك من الراكبين من يأخذه الحماس فيخاطر ويقف متباهيا في مقعد الدولاب وهو يدور ببصره يمينا وشمالا متصورا ان الجميع يشيرون إليه وينظرون إلى شجاعته بإعجاب وهو ينظر إليهم من الأعلى وكأنه ملك زمانه، أو يتصور نفسه كأنه طرزان يتأرجح بحبله في الهواء بين أغصان أعالي اشجار الغابات!! وأحيانا يزداد الازدحام ويكتظ الدولاب بحيث لاتجد مكانا فارغا ويتعالى الصراخ وتحتدم المعارك بين هذا وذاك ويرفض البعض النزول ويطلب التجديد إلى آخر فلس لديه، و تجد المرحوم (أبو ملكه) ذلك الطاعن في السن يجلس متهالكا قرب دولابه يقرع الطبل الكبير ويهمهم بعض الكلمات التي بالكاد تفهمها نظرا لضعف شدة صوته وكبر سنه: (عمي وعمك باشاعيان من دور النبي باشاعيان)

 

دولابي عبادان

اتذكر كان واحد عنده دولاب أسمه جاسم هو اسمر اللون وكانت الهوسة نرددها عند الصعود (دولاب جاسم جاسم اغاتي) وبالمناسبة فإن كلمة (عبادان) هي بالانجليزي Up and down بمعنى يعلو ويهبط (دولابي Up and down) يعني دولابي يعلو ويهبط وبمرور الوقت حرفت إلى (دولابي عبادان)، وليست لها علاقة بمدينة عبادان ويذكر أنه في أحد الأعياد أمتلأ دولاب الهوى وهو مثبت على جذوع النخل المستعملة منذ سنوات أي كانت تعبانه وبمجرد فرّة الدولاب سقط بما يحمله من الأطفال وسبب كارثة في وقتها. كما حدث مرةً إن إحدى البنات كان شعرها طويل والتف بعتلة الدولاب كانت الدواليب الرباعية والسداسية.. المنقوشة بالوانها الشعبية مثل البلم العشاري.. نقوشا جميلة رغم عشوائيتها... وتاخذني الذكرى إلى تلك البقعة فأكاد اتلمس مكان المناديل التي كنا نلقيها من ظهر مقاعد الدولاب لنلتقطها مرة أخرى لنخرج بها لعبة بهلوانية أدخلت على نفوسنا متعة المغامرة. وكأنها منجز بطولي..

 

دوران الفرارات

وتدور الفرارات براكبيها على الألعاب وهنالك من امتطى فيها الحصان الخشبي وبيده مسدس العاب يلوح به في الهواء مقلدا بطل الفلم (الولد) الذي شاهده من أبو أربعين في سينما الحمراء ومنهم من اعتلى الطائرة الخشبية وطار بها في خياله الطفولي وكأنه راكب طائرة حقيقية تطير به فوق البيوت أو ممتطي البساط الطائر فوق السحاب مقلدا عبدو في فلم (حرامي بغداد) الذي شاهده في سينما الحمراء القديمة الشتوي المطلة على ساحة ام البروم. واتوقف هنيهة فهنا كانت الفرارات..يدفعها خمسيني او ربما ساعده شاب.. ليجمع منا عشرة فلوس لكل راكب.. وكنت من بين من كان يحب ركوب الطائرة الخشبية لربما هو حلم كل الناس الذين لم يوفقوا برؤية الطائرات الحقيقية إلا في سماء بصرتنا الحبيبة وبكل براءة كنا نلوح لها كأنهم يروننا. وتهتز اراجيح الهوى وتكون عادة من الحبال و(الگواني الجنفاص) حتى تتخيل نفسك وأنت تطير في الهواء وعند الإنتهاء تلح على (أبو المرجوحة) متوسلا أن يعطيك وقت اضافي (زوادة) فيعطيك وهو يردد: (هاي زواده لعبد الساده طلگ مرته وعاف أولاده!)

وفي الأزقة ينتشر الباعة بالمأكولات على اختلاف انواعها ويركن المصور ببدلة الطيار والنياشين تزينها مع طائرته الخشبية وخلفها كرسي حيث يجلس الطفل ليخلد بصورة تذكارية يتذكر كل من فينا طفولته

وتشاهد البنات الصغيرات وهن ببدلاتهن الزاهية المزركشة وشرائطهن الملونة وضفائرهن بعضهن يحملن حقائب صغيرة من النايلون الملون تعلق على اكتافهن يضعن فيها نقودهن ويقلدن بها الكبيرات كان الصبية يضعون ايديهم في جيوبهم والبنات في حقائبهن للتسلية على اصوات (خرخشة) النقود المعدنية من فضية بيضاء أو نحاسية حمراء او يخرجون دراهم جديدة ابو السعفة و يتباهون بها كان الصغار يفضلون النقود المعدنية على النقود الورقية التي يجهلونها وعندما يعودون إلى دورهم تكون جيوبهم فارغة من آخر فلس وفي طرف الساحة الجنوبي تجد سوقاً عامرا بالحمير للتأجير وهنالك من يحسب نفسه فارس الهيجاء وقد امتطى ظهر حمار هزيل، والعربات التي حررها أصحابها من بيع النفط الأبيض وهي تجري براكبيها بحرية تسابق عربات الحصان المكتظة بالأطفال تنقلهم النفر عشرة فلوس إلى منتصف طريق المطيحه وتعود بهم وهم ينشدون (يا عيد يا بو نمنمه خذنه وياك للسينما) (ياسايقنا دوس دوس هسه نحصلك عروس) (يادريولنه چيور زين... روحة وردّة بالفلسين)

ويرددون بحماس نشيد العيد الازلي:

(هذا دريولنه الورد هسه يوصلنا ويرد)

ويصل الحماس ذروته عند أقوى مقطع

(دريولنه خوش وليد بس عينه عوره)

 

في باص الخشب

ولا ننسى هنا سائق باص الخشب الحاج ميرزا عباس أبو فاضل الذي كان ينقل الاطفال من الساحة إلى جسر الخورة النفر بعشرة فلوس ذهاباً وإيابا وهو اول باص خشب في البصرة تصنيع 1945 وكان صاحبه يعمل على خط ام النعاج ــ المطيحة. وتمد يدك في جيبك فتجد الباقي عشرة فلوس تكفي لدخول عالم (الرأس المقطوع يتكلم) وتشق طريقك بصعوبة وسط جمهور ملون بملابس العيد بين صغار يقودهم اب.. او ام او احد الجيران. متطوع لطيبة وثقة الناس بعضهم البعض آنذاك... وتكاد تتملص من ازدحام كتل الصبية والرجال وكثير من النشالين.. لتعبر إلى صريفة القصب اصرارا منك لرؤية.. الرأس المقطوع يتكلم. كنا نعجب ولم نفكر يوما إنها حيلة ساذجة كان عبارة عن صريفة من القصب لها باب مفتوح تغطيه قطعه من القماش (برده) يقف عنده شخص يستلم أجرة الدخول لتجد أمامك الساحر الذي يأتي بأنبوب اسطواني فارغ ويسده أمام انظارنا وعندما يفتحه يسحب منه سلسله طويلة من مناديل القماش الملونة ويقفز منه ارنب ثم تطير منه حمامه والبيضات يمشين (يس يم) وغيرها من الألعاب العجيبة هذا وسط دهشتنا وتصفيقنا، ثم نفاجأ برعب برأس مقطوع معلقاً من ضفائره وهو يهتف: (بسمك ياشعب) ونردد وراءه بحماس وبراءة الطفولة: (يحكم المهداوي)! وكان يقوم بدور الساحر عبد الرزاق وهو نجار يسكن محلة باب الزبير في زقاق الشيخ حبيب. وأما من يقوم بدور الرأس المقطوع فيدعى شعبان وينتهي المشهد الساحر وتتكرر أحلى المشاهد هكذا طيلة أيام العيد. وفي مساء آخر يوم العيد تسمع اصوات هنا وهناك تنطلق في ساحة الدواليب من قبل أصحاب الألعاب:

(باچر الأرض ملحه) يعني غداً ينتهي العيد ويأتي الغد وينتهي العيد وتأتي أعياد بعدها أعياد لكننا لم نذق طعما لها مثل طعم عيد البصرة القديمة زمن الحب والبراءة في (ساحة الدواليب) التي اندرست لكنها تصر على الوقوف بعناد في ذاكرتنا!!

الكاردينيا

شبكة البصرة

الاثنين 4 شوال 1444 / 24 نيسان 2023

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط