بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الكويت، السؤال الذي لا جواب له

شبكة البصرة

علي الصراف

السؤال الغائب هو: أي كويت نريد؟ هل هي حقل النفط الذي نحول عائداته إلى الخارج لترسم عالما خياليا للرفاه لأجيال ليس لها ما يربطها بالبلاد أكثر من جواز سفر ووثائق نسيان؟

يسوق الكويتيون بلادهم، بأعين مفتوحة، نحو الهاوية. تشكلت حكومة جديدة، ولكنها سوف تستقيل عما قريب. والبرلمان الذي سوف يعاد انتخابه، لن يطول به المقام. الوزراء لن يجيبوا على استجوابات النواب. فتنهار العلاقات بين الطرفين.

الكويت تعيش في هذه الدوامة منذ عدة عقود. تحوّل الأمر إلى ما يشبه لعبة معروفة النتائج. والبلد ينهار. البنية التحتية تتداعى إلى درجة أن الطرق فيها باتت من حال الطرق في الصومال. لا تنقص البلاد الأموال. ولكن ينقصها كل شيء آخر. تنقصها مشاعر الانتماء. تنقصها المسؤولية الوطنية. مثلما ينقصها أنها لا تعرف ماذا تريد.

ليس لدى الكويت مشروع. الأموال تتراكم، ولكن لكي تذهب إلى الخارج، فتُستثمر هناك، “لصالح الأجيال” كما يقال، ولكن الجيل الراهن، يدمر نفسه وبلاده حتى لكأنه يريد أن يهرب منها. هو وما سيأتي بعده من أجيال.

ما يحصل في الكويت من إهمال وتبديد أموال لا يمكن أن يُصدق. أدخلت البلاد نفسها في دوامة من القيل والقال بين الحكومة والبرلمان، إلى درجة أنها لم تعد تنتظر من الحكومة سوى الحكومة التي تليها. ولم تعد تنتخب برلمانا إلا وهو يحمل شهادة وفاته معه، بينما تتراجع مستويات الخدمات العامة إلى درجة لا تليق باسم الكويت أو صورتها في الخارج.

يعيش الكويتيون في فقاعات تزداد عزلة عن بعضها البعض. لا يوجد شأن عام مشترك. لا يوجد همّ وطني يدفع إلى سلوك طريق يُحيي التطلعات من أجل نهضة تنموية. كل شيء أصبح مثيرا للجدل. الشرعية نفسها تواجه تحديات غير مسبوقة. ومن حكومة إلى أخرى يتكرر التعطيل ويزداد الإهمال. ولا شيء ينفع أو تتاح له الفرصة لكي يُثبت جدواه. هناك أفكار للمعالجات. هناك مخارج تُقترح من حين إلى آخر. كما أن هناك خططا ومقترحات على مستوى الوزارات لحل هذه الأزمة أو تلك. ولكن لا شيء مستقرا في النهاية. والأفكار والحلول لا تجري متابعها. ودائما ما تتقطع السبل حتى على معالجة قضايا ليست موضع خلاف. كل ذلك يحصل لأنه ليس هناك “إطار عام” تتحلق من حوله الأفكار. فيزدهر الترهل، وينتعش الإهمال.

التفسيرات التي تلقي باللوم على تناحر المؤسسات الدستورية، لاسيما بين الحكومة والبرلمان، لا تكشف إلا عن جانب ثانوي من المعضلة. وهي أن البلاد ليس لديها تصور لما تريد أن تكون. وبالتالي فلا عجب أن تتناحر الأفكار وتتضارب التوقعات حول الأدوار التي يتعين على كل طرف أن يؤديها. ولا عجب من بعد ذلك أن تتناحر الأسباب.

خذ على سبيل المثال، انهيار الطرق العامة التي باتت تملؤها الحفر. تغرق بالمياه إذا هطلت الأمطار وتتكسر إذا حل الجفاف. يُلقى باللوم على “المناخ الصحراوي المتقلب”. وكأن هذا المناخ مخصوص للكويت وحدها. وفي حين يجري بحث المشكلة مع خبراء أجانب من عدة دول، وتُقدم حلول ومقترحات فيجري تنفيذ بعضها وإهمال بعضها الآخر، وتُنفق من أجلها المليارات، إلا أن المشكلة تعود لتكون أسوأ مما كانت.

تسأل لماذا؟ فيقال لك إنه انعدام الرقابة والفساد. وهذان وصفة، في الواقع، لانعدام الضمير. وهي وصفة تمس الانتماء نفسه. فالبلاد التي يشكل الفساد فيها القضية رقم واحد، مهدت بنفسها الطريق لكي يشعر الكثيرون بأن كل ما يعنيهم من بلادهم هو “حصتهم” منها. المحرومون يرفعون مقاليع التذمر، ليرموا بحجارتها على الحكومة في انتقادات وشكوك واستجوابات. والمنتفعون يرفعون عقيرة التبريرات، ويعثرون على أسباب، ليس أقلها “المناخ الصحراوي المتقلب”.

المعضلة هي أن البلاد لا تملك مشروعا وطنيا، مُتوافقا عليه، فتتحدد الأدوار والمسؤوليات على أساسه.

السؤال الغائب هو: “أي كويت نريد؟” هل هي حقل النفط الذي نحول عائداته إلى الخارج لترسم عالما خياليا للرفاه لأجيال ليس لها ما يربطها بالبلاد أكثر من جواز سفر ووثائق نسيان؟ أم هي بلاد يُعمّرها جيل اليوم لتصبح بستانا للرفاهية والخضرة للجيل المقبل؟ أم هي بلاد تعيش ليومها على قدر ما يتاح من الممكن وبحسب أنصاف التسويات والترضيات؟

الديمقراطية، كما أثبتت التجربة، لم تظهر إلا كجواب وهمي على هوية وهمية من الأساس. كل الحكومات التي استقالت، وكل البرلمانات التي تم حلها، تؤكد هذه الحقيقة. وهي أن البلاد أدخلت نفسها في منزلق، فلم تعد تعرف كيف تخرج منه، ولا هي تمكنت من أن توظفه في اتجاه تنموي يعيد بناء المجتمع والاقتصاد، فيعيد بناء “المناخ المتقلب” عندما يصبح التشجير جزءا رئيسيا من مشاريع التنمية.

لقد كانت فكرة إنشاء “صندوق سيادي” للاستثمارات في الخارج، نوعا من الهرب إلى الأمام، لكي لا تنخرط البلاد في أي اتجاه. كان ذلك الصندوق، ولا يزال، الجواب الخطأ على السؤال الخطأ.

تمتلك السعودية والإمارات وقطر صناديق سيادية. ولكنها تبني. “نيوم” مشروع يتكلف 500 مليار دولار. انظر في تفاصيله، وسترى أنه مشروع لبناء جنة تمتزج فيها الخضرة والرفاهية بالأعمال والاستثمارات في صناعة المستقبل. دبي، مثال جاهز. هذه المدينة هي ثمرة رؤية وطنية غارقة بالحب والزهو. أليس فيها “مناخ متقلب”؟ أم أنها نجحت في أن تقلبه على وجه آخر؟ ثم وإن بددت قطر أموالا زائدة عن اللزوم لاستقبال مونديال كأس العالم، فإنها بنت شوارع وطرقا لا تتطاير منها الحجارة ولا تغمرها المياه بعد شبرين من الأمطار.

العمالة الأجنبية التي تضيق بها الكويت ذرعا، في غياب الرؤية الاستثمارية الوطنية، استقبلت دول “المناخ المتقلب” في الجوار الملايين منها، بل استوطنتها لتواصل أعمال البناء.

لقد أنفقت هذه الدول مئات المليارات، على إعمار نفسها. وظلت صناديقها السيادية تكبر. هل تعرف كيف؟ اسأل الأمير محمد بن سلمان، الذي كانت مكافحة الفساد واحدة من أول مشاريعه لبناء قاعدة تنموية عريضة. لم يكن الأمر “سياسيا” على الإطلاق. كان أمرا اقتصاديا خالصا. لا شيء يتحقق إذا كان الفساد جزءا منه. القصور الشاهقة تنهار إذا بنيت فوق رمال.

بينما الفساد في الكويت محنة المحن. تلف البلاد وتدور لتجد نفسها في الحفرة ذاتها. تذهب حكومة وتأتي أخرى، ويسقط برلمان فيُنتخب غيره، والسؤال الحقيقي لا جواب له.

العرب

شبكة البصرة

الخميس 22 رمضان 1444 / 13 نيسان 2023

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط