بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أميركا والتجسس: من أسرار الخارج إلى فضائح الداخل

شبكة البصرة

تجسس الدول على بعضها تصرف قديم، فكلها تمارسه حسب اقتدارها وكبر مصالحها ونفوذها، وكذلك هو انكشاف سرقتها أسرار الغير. وتظل أميركا متفوقة في الأمرين، فهي الأقدر بتقنياتها وإمكاناتها وخبراتها على اختراق الصناديق المقفلة للآخرين، من أصدقاء وحلفاء وخصوم. وفي الوقت ذاته، كانت أكثر من فُضح أمر تجسسه ومن داخل بيتها.

وصار ذلك ممارسة تتكرر بين الحين والآخر، مع كل ما تنطوي عليه من صدمات وإحراج واستنفار لسد الثغرات، لكن من غير كثير من الجدوى. من السوابق الأخيرة، تسريب حوالي 700 وثيقة سرية إلى "ويكيليكس" عام 2010 عن طريق الجندي السابق في الجيش الأميركي برادلي مانينغ (تشلسي مانينغ بعد تحويل جنسه إلى أنثى)، الذي عمل مع القوات الأميركية في العراق.

وزعم آنذاك أنه فعل ذلك تعبيراً عن اعتراضه على الحرب. بعدها في 2013، مرّر الخبير المتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" إدوارد سنودن، إلى وسائل الإعلام، معلومات عن 61 ألف عملية اختراق قامت بها "وكالة الأمن الوطني"، الأهم من "وكالة الاستخبارات المركزية" (سي آي إيه) في ما يتعلق بالمعلومات عن الخارج. وكشف التسريب عن عمليات تجسس وتنصّت على الأوروبيين، ومنها التنصت على هاتف المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، فضلا عن اليابان والهند وكوريا الجنوبية وغيرها. خطورة العملية دفعت سنودن إلى الهرب ثم اللجوء إلى روسيا التي استقر فيها بعد أن منحته الجنسية الروسية مؤخراً. ثم تكرر السيناريو في 2017، عندما أقدم خبير لغوي يعمل مع هذه الوكالة إلى تزويد إحدى الصحف بتقرير سري عن تفاصيل المحاولات التي قامت بها موسكو للتأثير على توجهات الناخب الأميركي. وفي كل مرة، كان يعاقب الفاعل بالسجن أو يلجأ إلى الفرار، مثل حالة سنودن.

تسريب وثائق البنتاغون الأخير كان حلقة أخرى في هذا المسلسل. لكن الجديد هذه المرة ليس فقط نوعية وحساسية المعلومات التي فضحها، وخاصة المتعلقة منها بحرب أوكرانيا، بل أيضا مدى الخفّة في التعامل مع هذه الأسرار.

ما خضّ واشنطن أكثر من أي مرة سابقة هو أن يكون بمقدور عسكري تقني، عمره 21 سنة، الاطلاع على كمية واسعة منها وأن يتداولها عدة أيام عبر احدى وسائل التواصل لهواة الألعاب، قبل أن يلتقط المعنيون عملية الإفشاء وما انطوت عليه من فجوات خطيرة في نظام وآليات عملية جمع وحفظ المعلومات العميقة عن الخارج، والتي تعتبر من أهم العناصر في صياغة السياسات والحسابات الأميركية الخارجية.

فالمتهم جاك تيكسيرا هو اختصاصي في صيانة الكابلات والمحاور لشبكات الاتصالات العسكرية في قاعدة لقوات الحرس الوطني الجوية في ولاية ماساتشوستس. موقعه دقيق يوفر له الاطلاع على بحر من المعلومات من دون صمامات أمان كافية لحماية السري منها. والمعروف عنه أنه كان عضواً ناشطاً على موقع خاص لهواة الألعاب، كان من خلاله يشارك المعلومات السرية التي يطلع عليها مع رواد هذا الموقع. ويتحدث عن "السلاح وأسرار الحروب". واستمر ذلك مدة شهر أو أكثر،ما أدى إلى كشف حوالي 300 وثيقة حسب التقديرات، من دون أن يدري أحد من المعنيين.

بعد إلقاء القبض عليه وحضوره، أمس الجمعة، أمام المحكمة التي أبقته رهن التوقيف بسبب خطورة تسريباته، بدأت الإدارة بالتحرك لتقليل الخسائر مع تجديد الوعد القديم بضرورة ضبط سرية الأسرار. وتجددت الأسئلة حول مكمن العطب الذي يحول دون ذلك بالرغم من تجارب الماضي والوعود بإصلاح الآليات. من الخبراء من يرى أن المهمة صعبة في ضوء "تضخم البيروقراطية واطلاع الملايين من الموظفين" على الأسرار التي تجمعها سائر الوكالات الاستخبارية. ويفاقم هذه المشكلة أن الإصلاحات التي جرت في المجال الاستخباري إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 وسّعت المشاركة في المعلومات السرية، ما أدى إلى "تمكين مسؤولين وموظفين من الصف الأدنى" من الاطلاع على الأسرار. الانتقال إلى هذا التوسيع جاء بعد فشل الأجهزة المعنية في تشاركها بالمعلومات، ما أدى إلى الفشل في إحباط تلك العمليات.

النتيجة أن تقليص المشاركة كان له ثمن كبير، وتوسيعها يقال إنه وسّع ثقب التسريب. وفي الحالتين، التحدي كبير. فبقدر ما هي كبيرة قدرات أميركا على الحصول على الأسرار، بقدر ما تبدو عاجزة عن سد حنفية تسريبها.

فكتور شلهوب

العربي الجديد

شبكة البصرة

الاثنين 26 رمضان 1444 / 17 نيسان 2023

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط