بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شوارع بغداد لا تزال شاهدة على سنوات المذابح المأساوية

شبكة البصرة

هادي مزبان

أصلي بصمت على أرواح راحلين وأنا أمر في عدد من الأماكن عبر بغداد. وتشمل تلك الأماكن الشوارع السكنية والمطاعم، وحتى ساحة تتجمع فيها الحافلات الصغيرة.

يمر الناس اليوم بصفة عادية عبر هذه الأماكن، وربما لم يعودوا يفكرون في الرعب الذي شهدته منذ سنوات. لكن كل موقع أصبح بالنسبة إلي مرتبطا بالمذابح والألم الذي عانى منه الناس هناك.

غطيت بصفتي مصورا في وكالة الأسوشييتد برس عقدين من الاضطرابات منذ الغزو الذي شنته الولايات المتحدة على بلدي. وزرت مع مصورين آخرين مشاهد التفجيرات الانتحارية والضربات الصاروخية وإطلاق النار في جميع أنحاء بغداد كل يوم تقريبا في ذروة المجزرة الطائفية التي أعقبت الغزو. وكان هذا السيناريو يتكرر أحيانا عدة مرات في اليوم.

يتذكر العراقيون اليوم الخوف الذي كان منتشرا في تلك الحقبة، لكن تعدد التفجيرات محى تفاصيل الهجمات الفردية. وأضفت بعضا من صوري من سنوات الاحتلال الأميركي إلى صور جديدة من اليوم بهدف الجمع بين الماضي والحاضر في ما يتعلق بهذه القصص.

 

انفجار مدو في تقاطع الصدرية

انفجرت سيارة مفخخة بين الحشود يوم 18 أبريل 2007 في هذا التقاطع الكبير المزدحم بالحافلات الصغيرة، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 140 شخصا. وكان ذلك حينها من أحد أكثر التفجيرات دموية منذ الغزو الأميركي.

كنت خلال صباح ذلك اليوم في موقع التفجير الأول الذي أسفر عن مقتل العشرات. وركبت مع رجال الإطفاء الذين توجهوا إلى الانفجار الثاني. كنا من أوائل الواصلين إلى مسرح الصدرية. ملأت رائحة اللحم المحترق أنفي. وتناثرت الجثث المتفحّمة بين الحافلات الصغيرة المشتعلة. وواصل الناجون تحميل أشلاء الجثث على عربات الخضروات الخشبية لنقلهم.

رأيت في اليوم التالي عندما عدت، فتاة مع والدتها تبحث بين الحطام المتبقي. كانت الأم حافية القدمين ووجهها مُعفر بالرماد وهي تصرخ اسم زوجها المفقود: “أحمد، أين ذهبت؟ لا أستطيع أن أواصل دونك. إن بناتك يحتجنك”. رأيت نظرة الرعب الصامت في عيني الفتاة وهي تمسك أختها الصغيرة وتستوعب المشهد. والتقطت صورتها.

عدت إلى الصدرية قبل عدة أسابيع. انتشرت الحافلات الصغيرة واحتشد الناس في أحد أسواق الشوارع المجاورة. عشت ذلك اليوم قبل 16 عاما كما لو كنت أشاهد فيلما في السينما. أتصور أن أولئك الأقرب إلى القنبلة تبخروا دون أن يتركوا أثرا. كان هذا التقاطع مثواهم الأخير.

 

كمب سارة

نال هذا الحي في بغداد اسمه من امرأة مسيحية أرمنية ثرية كانت تمتلك المنطقة عندما كانت أرضا زراعية. وعندما فر الأرمن من الاضطهاد التركي في أوائل القرن العشرين، سمحت للاجئين بالاستقرار على أرضها التي تحولت بحلول الخمسينات إلى حي مسيحي.

انفجرت سيارتان مفخختان في غضون دقائق على بعد بضع عشرات من الأمتار في شارع تجاري رئيسي في المنطقة يوم 4 أكتوبر 2006. وتحطمت أجزاء من المباني وانهار بعضها بالكامل. وقُتل ما لا يقل عن 16 شخصا وجُرح العشرات. وحمل بعض الشبان امرأة عجوزا على كرسي بعيدا عن الخطر. استخدم آخرون الأقمشة لحمل قطع من الجثث. كان الجميع يركضون، إما بعيدا عن الخطر أو باتجاه أحبائهم لمعرفة ما إذا كانوا على قيد الحياة.

صرخ أحد السكان ويدعى دريد وكأن المسؤولين عن الانفجار يستمعون إليه “لا إله عندكم. أنتم لستم مسلمين. أليس هؤلاء عراقيون؟ ما هي جريمتهم؟”.

كان الانفجار واحدا من بين العديد التي نفذها متطرفون سنة، والتي ضربت مناطق مسيحية على مر السنين. كان كمب سارة في يوم من الأيام واحدا من أجمل أحياء بغداد. وبقي الشارع كما هو لكن كل شيء تغير مع مغادرة معظم مسيحييه بسبب العنف. وانتقل دريد إلى حي آخر من بغداد. وأصبح كمب سارة مثل أي جزء آخر من بغداد، ضحية أخرى لذلك الزمن الدموي.

 

احتفال في حي الكرادة

أقيم احتفال صغير في أحد شوارع حي الكرادة الذي تقطنه الطبقة الوسطى في بغداد خلال عيد الجيش الموافق لـ6 يناير 2008. وكنت واحدا من عدة مصورين اجتمعوا هناك بينما خرج السكان ليحتفلوا بالجنود. ووضع بواب أحد المنازل، يدعى أبوعادل، زهرة في فوهة بندقية أحد الجنود وقبله على خديه. لكن انتحاريا أنهى كل شيء.

سقطت على الأرض لكنني واصلت التقاط الصور. وتحول الاحتفال إلى فوضى، حيث احترقت سيارات ومبان وانتشرت جثث 11 قتيلا. وكان أبوعادل من بين القتلى. عدت إلى الموقع قبل بضعة أسابيع. كان الشارع هادئا مرة أخرى بفيلاته ومنازله. وبينما كنت ألتقط الصور، اقترب مني بواب من أحد المنازل. كان اسمه علي أحمد. سألته عما إذا كان هنا في ذلك اليوم وعرضت عليه صوري القديمة للانفجار.

بكى أحمد وقال “كان يجب أن أموت ذلك اليوم”. حيث كان على وشك الذهاب مع أبوعادل لوضع زهرة في بندقية الجندي، ولكنه بقي ليصلح مولدا كهربائيا معطلا. وأضاف “فصلتني ثوان عن الموت”. ووجدناه في خلفية إحدى صوري، خلف بعض الجنود الملطخين بالدماء. والتقطت صورة جديدة له في نفس المكان.

كنت أيضا قريبا من الموت في ذلك اليوم. وشعرت أنني على بعد سنتيمترات منه في مرات أخرى أيضا، ورأيت أولئك الذين كانوا بالصدفة على الجانب الخطأ من هذا الخط الرفيع. أقول لنفسي إن الله حفظني من أجل أطفالي وزوجتي. يبقى كل يوم أقضيه معهم هدية. يمكن ربط مكان ما بمشاعر قوية، ويشبه الأمر زيارة زوجين لجميع المواقع التي كانت محطات في قصة حبهما. ويكون هذا الشعور رعبا في بعض الأحيان.

العرب

شبكة البصرة

الاثنين 4 شوال 1444 / 24 نيسان 2023

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط