بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الصرافية سيد الجسور

شبكة البصرة

كرم نعمة

جسر الصرافية المحاذي لمبنى الجريدة أشبه بهيكل مشيد بالقصائد المغسولة بماء دجلة.

يتسنى لي اليوم أن أقّدر عمري آنذاك في ذاكرة يقظة، عندما وقف أبي الذي كنت بصحبته في مكان مفتوح تحيط به الطرقات والمنازل. وقال “لقد ولدت هنا!” لم يكن أي أثر لبيت في المكان الذي حدده فقد تغيرت ملامح المنطقة وفتحت طرقات فيها، لكن بذاكرته المعمارية استطاع أن يحدد المكان عن قرب. لم أكن قد تجاوزت الخامسة من عمري آنذاك لكن تلك القصة الفلكلورية لم تغادر ذاكرتي ما حييت. ومن حسن حظي كان مكان عملي بعد سنوات في صحيفة الجمهورية في منطقة الوزيرية التي لا تبعد كثيرا عن المكان الذي حدده أبي لمكان ولادتي عام 1964.

كان جسر الصرافية المحاذي لمبنى الجريدة أشبه بهيكل مشيد بالقصائد المغسولة بماء دجلة، كنا نمر على مقربة منه يوميا وإن لم يأخذنا الطريق إليه، ذلك الجسر الذي يعبّر عن مكين بغداد أكثر من مكانها، وكأنه الجزء المرئي من روحها وهو يربط منطقتي الوزيرية والعطيفية في كرخ ورصافة بغداد على نهر دجلة.

لم يغب هذا الجسر الحديدي الذي يكاد يكون أشبه بجسر “فيرث أوف فورث” الذي بات رمزا لإسكتلندا، عن ذاكرتي، لكن استذكار تدميره من قبل الميليشيات في مثل هذه الأيام قبل ستة عشر عاما، عندما قطع أوصاله تفجير في الثاني عشر من أبريل 2007 بنوازع طائفية مبتذلة، يجعله حاضرا في صورة تأريخية تتجدد كلما مرت عليها الأيام.

ثمة حكاية تقول إن الجسر كان معدا لأن يشيّد في مدينة سيدني الأسترالية، إلا أن السلطات العراقية تعاقدت عام 1948 مع شركة بريطانية لتحويره ليكون على نهر دجلة، وبالفعل قدر لهذا الجسر أن يكون قلبا لبغداد بقي ينبض بالحنين حتى فجره العقل القبوري.

موقع الجسر يكاد يكون الطريق الأمثل للعشاق مثلما هو للحالمين بحرية التجوال، فهو يبتعد قليلا من مركز المدينة وتحيط به البيوت التي أرخت لتاريخ العراق السياسي والثقافي عبر سكنتها من نخبة المجتمع العراقي في مناطق كانت في يوم ما رئة بغداد في بساتين العطيفية والوزيرية والأعظمية.

واحدة مع أسرار كاتبة عراقية راحلة كانت تمر بسيارتها صباح كل يوم قرب جسر الصرافية توقف المركبة، وتترجل منها بمحاذاة الجسر تتأمل هيكله الحديدي ككائن أسطوري أو مثل ابن وحيد يكاد يسافر عن عيني أمه في أي لحظة، تملأ رئتيها بالهواء المشبع برائحة أمنا النخلة وأشجار البرتقال والصفصاف وهي تحنو على أوراق السيسبان، تضغط على الوقت قبل أن تترك الجسر إلى مكان عملها القريب.

هكذا ترك جسر الصرافية في ذاكرة أي بغدادي حكاية، أما أنا فقد كانت آخر حكاياتي معه قبل ثلاثين عاما عندما مررت تحته في مساء شتائي بارد في زيارة لمنزل فنان رائد أطمئن على صحته، قضيت معه بضع ساعات كانت آخر مرة أراه فيها قبل أن أغادر البلاد دون عودة، وقبل أن يغادرنا هو إلى العالم الآخر.

عندما فجر العقل القبوري الجسر عام 2007 كان يهدف إلى تقطيع أوصال بغداد، واختار المنطقة المعبرة عن روح المدينة وتآلفها وكأنه في ذلك يكسر مدونة التاريخ المطمئنة. ليلتها انكسر قلبي وأنا البعيد عنه آلاف الكيلومترات، مثل قلب كل العراقيين الذين يعرفون جسر الصرافية أو عاشوا تحت ظله أو لوحوا لحبيباتهم في الطرقات المحيطة به. لذلك بقي هذا التاريخ جرحا وكأنه يمثل ذلك المقطع الباهر من قصيدة صديقي الشاعر عريان السيد خلف التي لحنها الموسيقار محمد جواد أموري لصوت سعدون جابر، والذي بقي منزله على بعد خطوات من جسر الصرافية “شما يطول الجرح بينا يطيب/بس ما ينمحي”!

العرب

شبكة البصرة

الاثنين 26 رمضان 1444 / 17 نيسان 2023

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط