بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

في الذكرى الثامنة والأربعين للحرب اللبنانية (1975 -2023)

محاولة جديدة لاكتشاف أسباب تفجرها ومتابعة تداعياتها المستمرة

شبكة البصرة

أ.د. محمد مراد

مع 13 نيسان 2023 تكون ثماني وأربعون سنة قد مضت على انفجار الحرب اللبنانية، وهي الحرب - المأساة التي ما زالت تداعياتها السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والتربوية والثقافية تحكم، حتى اليوم، مستقبل لبنان دولة ومجتمعا وكيانا وطنيا، حيث ما زال بفعلها في دوامة الأزمة الأكثر تعقيدا، والتي باتت تتجاوز التراكمات السلبية التي أنتجتها سنوات الحرب التي تواصلت فصولها المأساوية لأكثر من خمس عشرة سنة بين عامي 1975 - 1990.

إنّ أسباب تعثّر النهوض اللبناني تكمن أولا وأخيرا في السياسات التي اعتمدت في معالجة الأزمات التي تلاحقت منذ قيام الدولة اللبنانية الحديثة وصولا الى اليوم، اذ لم تستطع المعالجات إيجاد الحلول الدائمة لتلك الأزمات، وإنّما كانت في معظمها محاولات لتأجيل الأزمة وليس الى إلغاء أسبابها ومحاصرة مضاعفاتها ومفاعيلها.

ثمّة جدلية تاريخية حكمت المسار التطوري للبنان الحديث والمعاصر هي "جدلية الأزمة -التسوية"، وذلك عبر دورية تعاقبية لإنتاج وإعادة إنتاج سلسلة متواصلة من الأزمات- التسويات، بحيث أنّ كل أزمة كانت تنتهي الى تسوية مؤقّتة ثمّ تعود التسوية لتتعثّر وتتحوّل الى أزمة من جديد، وهكذا دواليك.

في الذكرى الثامنة والأربعين للحرب المشؤومة، رأينا من الافادة القيام بقراءة موضوعية مجرّدة بعيدة كليا عن التبريرية والأدلجة، بهدف الكشف عن الأسباب العميقة الحاملة التي أفضت الى تفجّر تلك الحرب منطلقين من تسويتي 1943 و1958 بصورة أساسية.

أولا، تسوية 1943:

هي تسوية أملتها تطورات دولية ومحلية في ضوء مؤشرات لمسارات الحرب العالمية الثانية التي أخذت تميل لصالح الدول المتحالفة وبينها فرنسا وبريطانيا، حيث راحت هاتان الدولتان تربطان بين نظام دولي لمرحلة ما بعد الحرب من جهة، وبين نظام إقليمي في المشرق العربي يتمتع بدرجة من الاستقلالية والسيادة الوطنية من جهة أخرى. أمّا على الصعيد المحلي اللبناني فقد كان للموقع الاققتصادي المتقدم الذي بلغته العاصمة اللبنانية بيروت من حيث تحوّلها الى مدينة " كوسموبوليتية " راحت تسجّل سبقا على سائر مدن وعواصم المشرق العربي في مبادلاتها التجارية، والتي كان لمرفئها الدور الأكبر في عمليات الشحن والتفريغ والمركزة التجارية لبنانيا وعربيا. فقد ظهرت في العاصمة بيروت برجوازية لبنانية مسيحية - اسلامية، راحت تتوافق في المطالبة على الاستقلال من ناحية، وعلى صيغة ميثاقية تقوم على "اللبننة والعربنة"، أي باعلان نخب اسلامية بيروتية عن استعدادها للاندماج في الاجتماع السياسي اللبناني المستقل عن فرنسا، بالمقابل، إعلان نخب مسيحية بيروتية عن كبير استعدادها للانفتاح الاقتصادي على المحيط العربي لما يشكل لها هذا المحيط من مجال حيوي لنمو مصالحها الآخذة بالنمو والازدهار. على قاعدة ثنائية اللبننة والعربنة كان الميثاق الشفوي غير المكتوب بين زعيمي الاستقلال بشارة الخوري ورياض الصلح، والذي على أساسه جرى تقاسم السلطة وقيام دولة الاستقلال، لكن من غير أن تتوظّف الميثاقية الاستقلالية في التأسيس لتجربة وطنية عميقة على مستوى الهياكل المؤسسية للدولة تفضي الى تجذير الحياة الوطنية وتفرغها من أي مؤثرات أو مفاعيل للطائفية السياسية، الأمر الذي أبقى العصب الطائفي السياسي قابلا للاشتداد والظهور بقوة عند أي خلل في التوازنات الداخلية من جهة، وعند أي عامل خارجي متقاطع مصلحيا مع الداخل الطائفي المحلي من جدهة أخرى.

 

ثانيا، النهج الشهابي بين مشروع الدولة ودولة المشروع

كانت التجربة الشهابية التي تولت ادارة الحكم اللبناني بعد تسوية أحداث 1958 على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، كانت محاولة هدفت الى مأسسة الدولة عن طريق تعويم صيغة 1943 الميثاقية، وإعطائها شحنة دافعة من الاستمرارية. فقد عرفت هذه التجربة في ولايتها الأولى (1958 - 1964) سلسلة من إصلاحات التحديث للدولة ومؤسساتها على المستويات الادارية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية. الا أنّ التطور في هذه الفترة، وعلى الرغم من الايجابيات الكثيرة التي سجّلها على أكثر من مستوى، فانّه لم يخرج عن كونه تطورا في الهيكلية الخارجية، وفي الاطار الظاهري أكثر منه في إيجاد أرضية مؤسسية ثابتة ومجذّرة.

إنّ الاصلاحات الشهابية لم تلامس إحداث تغييرات نوعية على مستوى البنية السياسية، لا بل أنّها على هذا المستوى كانت تعمل على تعزيز عناصر الأزمة المؤجّلة الإنفجار أكثر منها على إلغاء مسبباتها العميقة أو الحدّ منها.

 

ثالثا، التطييف السياسي للسلطة

لم تشهد المرحلة الشهابية تبدّلات نوعية على مستوى التركيب الاجتماعي - السياسي سواء للمجالس النيابية أم الوزارية. فقد جرت الانتخابات النيابية في دوراتها الأربع (1960، 1964، 1968 و1972) وفقا لقانون الستين (1960) الذي قضى برسم خارطة إدارية للتمثيل النيابي يتوزعها 25 قضاء كوحدات ادارية انتخابية، جاء ذلك ليعزّز المزيد من الفرز الطائفي - المذهبي الذي صبّ في خدمة الزعامات الطائفية والمناطقية، الأمر الذي كان يزيد من تعميق ظاهرة التطييف السياسي في تركيبة المجالس النيابية، والتي كان يعاد معها إنتاج جماعات النفوذ الاجتماعي - السياسي على قاعدة الثبات المستمر أو التوريث للمقاعد النيابية والحقائب الوزارية.

ولمّا حاول الرئيس سليمان فرنجية (1970 - 1976) الحدّ من نفوذ الاقطاع السياسي - الطائفي من خلال انتخابات 1972 التي تميزت عن سائر الانتخابات التي سبقتها لجهة حياد السلطة، ولجهة حملها وجوها جديدة شبابية وكفوءة علميا وتكنوقراطيا (حكومة الشباب برئاسة صائب سلام 1972)، فإنّ القوى الطائفية - السياسية رأت فيها تحجيما لمواقعها، فاندفعت الى إعلان حربها التحريضية على عهد فرنجية، الأمر الذي بات ينذر باختلال توازنات المصالح، ويدفع بسرعة نحو تفجّر الصيغة الميثاقية التي أنتجتها تسوية 1943، وكذلك صيغة التسوية الشهابية " لا غالب ولا مغلوب " لعام 1958، حيث أنّ هذه الأخيرة لم تكن في الواقع، سوى تسوية من فوق أي بين الزعامات - الأقطاب للطائفية السياسية وليس بين الفئات الشعبية والاجتماعية اللبنانية.

 

رابعا، احتدام صراع التعريب واللبننة داخل الاجتماع السياسي اللبناني

في الوقت الذي كانت تشهد فيه الشهابية في عهدي فؤاد شهاب وشارل حلو انفتاحا متزايدا على المحيط العربي، وخصوصا على مصر الناصرية، فإنّ قوى مسيحية محافظة راحت تجاهر بانحيازها الى الغرب كتعبير عن حالة صراعية على درجة من الشدّة بين التعريب واللبننة. تمثّل هذا الانقسام الشاقولي في المجتمع اللبناني في أعقاب عدوان حزيران 1967 بين موقفين متناقضين تماما: الأول، بغلبة اسلامية واضحة متضامن مع العرب في مواجهة نتائج الهزيمة التي أحدثتها الحرب، والآخر بغلبة مسيحية واضحة مظهرا الاستقواء بدعم الغرب لمواجهة الاختلالات المستجدة في التوازنات الداخلية بعد دخول العامل الفلسطيني كقوة عسكرية وسياسية وسكانية وفكرية يسارية تفاعلت بسرعة مع الشارع الاسلامي، هنا، كانت ردة الفعل المسيحية بتشكيل حلف ثلاثي من أحزاب الكتائب والوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية.

عبّرت معركة النهج - الحلف عن أبرز تجلياتها في انتخابات 1968 النيابية، ارتدت المعركة طابعا سياسيا حادا بين أنصار التعريب واللبننة، وجاءت النتائج لتؤكد انتصار الحلف الثلاثي الذي استطاع أن يحمل سليمان فرنجية الى سدّة الرئاسة الأولى في انتخابات 1970، وينهي ليس فقط، النهج الشهابي، وإنّما ليوجّه ضربة قاصمة لصيغة 1943 الميثاقية، وكذلك لتسوية 1958 الشهابية، وليدخل لبنان في حرب أهلية مفتوحة استمرت لأكثر من خمس عشرة سنة متواصلة.

 

خامسا، اختزان البنية السياسية اللبنانية عناصر خارجية

استمرت البنية السياسية اللبنانية، وهذا هو الأخطر في تطور لبنان السياسي منذ قيام دولته الحديثة وحتى اليوم، في كونها بنية تختزن عناصر خارجية. فالعناصر الحاملة لهذه البنية من داخلية وخارجية كانت تتحول دائما الى عناصر تضاد وتناقض داخل البنية نفسها مع مجرد أي تأزّم يطرأ داخليا أو خارجيا. فأي أزمة داخلية كانت تثير أزمة موازية في الخارج الاقليمي أو الدولي، والعكس صحيح أيضا.

وبفعل هذا الاشتباك بين الداخلي والخارجي في البنية اللبنانية، دفع لبنان، وما يزال، أكلاف القضية الفلسطينية، وأكلاف الصراع العربي - الصهيوني وتقاطعاته الدولية، حتى أنّه كان على لبنان أيضا، أن يدفع أكلاف " السلام " و" التطبيع " والتسويات للصراعات الاقليمية والدولية.

 

سادسا، ظاهرة التطور العنفي للسلطة السياسية

على امتداد المرحلة (1943 - 1975) كانت الجماعات النافذة طائفيا وسياسيا تتحول الى جماعات ضغط أو جماعات قوّة بهدف الاحتفاظ بمواقعها في توزّعات السلطة من جهة، أو السعي لتحسين هذه المواقع وتعزيزها عبر المطالبة بالتوازن في الشراكة في كل مرة تطرح فيها توزّعات السلطة من جهة أخرى.

لقد ساد في المرحلة الفاصلة بين عامي 1943 - 1975 شعاران اثنان حكما الخطاب السياسي طيلة هذه المرحلة وهما: الخوف المسيحي مقابل الغبن الاسلامي. هذان الشعاران يعكسان، في الواقع، المزج بين الطائفي والاجتماعي والسياسي، وهو السمة المكوّنة للبنية المجتمعية اللبنانية. هذه البنية كانت تظهر استعدادا قابلا للانفجار العنفي في أية لحظة مساعدة، فانقلاب الحزب السوري القومي الاجتماعي وفشله عام 1961، وتحول المكتب الثاني الى جهاز لأمن السلطة السياسية، وانخراط أحزاب اليسار اللبناني ذوي الغلبة الاسلامية في جبهة الفصائل الفلسطينية المسلحة بعد العام 1967، والحذر الشديد المقرون بالخوف لأحزاب وقوى محافظة في الوسط المسيحي، كل ذلك كان ينذر بتطورات العنف السياسي في لبنان، والذي لم يلبث أن تحوّل الى عنف مسلح انفجر في 13 نيسان 1975، ليشكّل فاتحة الحرب الأهلية التي توالت فصولها الكارثية والتدميرية لأكثر من خمسة عشر عاما، لتعود فتهدأ مع تسوية جديدة عبر التوصل الى صيغة الطائف التي كانت نتيجة نقاطع جملة من المعطيات الدولية والاقليمية العربية واللبنانية المحلية آنذاك.

 

سابعا، قصور الفكر السياسي اللبناني

تجلى قصور الفكر السياسي اللبناني في عدم القدرة على التأسيس لأحزاب وطنية ذات ثقافة وبرامج تتجاوز الظرفية والوظيفية الى استراتيجية وطنية هدفها المركزي الأعلى التخلص من ولاءات المجتمع الأهلي الطائفية والمذهبية والعشائرية والجهوية وصولا الى بناء المجتمع المدني على مرتكزات المواطنة التي تبقى القاسم الجامع المشترك في انتاج هوية وطنية لبنانية واحدة، وهو قصور تحكمه أسباب وظروف عديدة منها غلبة الانتماءات الأولية التقليدية، وصراع المصالح، وعيوب النخب والمراكز العلمية والفكرية.

إنّ الأحزاب التي قامت بين عامي 1943 - 1975، إمأ كانت على أساس التبعية الولائية المحلية، وإما على الولاء للخارج، حيث تستجيب لمصلحة هذا الخارج قبل أن تستجيب لمصلحة وطنية لبنانية.

 

خلاصة: توقفت الحرب الأهلية في ضوء التوصل الى صيغة جديدة للتسوية الميثاقية عبّرت عنها وثيقة الطائف للميثاق الوطني، هذه الصيغة أوقفت الحرب ميدانيا دون أن تعالج أسبابها العميقة، وقد حملت الى السطة الجديدة منظومة سياسية طائفية مدفوعة بخلفيات ثقافية لا دولتية، هي منظومة استأثرت بحكم الدولة، وراحت تعيد انتاج نفسها في كل دورة انتخابية نيابية، ومع كل تشكيلة وزارية، والأهم من ذلك، تميز السلوك السياسي لهذه المنظومة بسمات ثلاث أساسية:

الأولى، اعتماد المحاصصة للسلطة والدولة ومؤسساتها ومرافقها العامة ز

الثانية، استندت في قوتها السياسية الى ميليشيا حزبية من اللون المذهبي الواحد، الأمر الذي أضعف لا بل غيّب وجود الأحزاب الوطنية الممتدة في كل النسيج الاجتماعي اللبناني. فقد كان من أبرز النتائج التي انتهت اليها الحرب الأهلية قد تمثّل بتحول الحياة السياسية من الاقطاع الطائفي السياسي قبل الحرب الى حزب الطائفة السياسي بعد الحرب، وهذه مسألة في غاية الخطورة على مستقبل البناء الوطني وقيام الدولة الوطنية اللبنانية.

الثالثة، الممارسة التسلطية على الدولة واداراتها ومرافقها، وتحويلها الى مجموعة مزارع خاضعة للاستثمار والنهب والمحسوبية الزبائنية، الأمر الذي أوقع الدولة في دائرة العجز والفشل في قيامها بوظيفتها المؤسسية العامة.

إنّ المرحلة التي يعيشها لبنان اليوم، وبعد مضي مايقرب من الثلث قرن على توقف الحرب الأهلية المشؤومة، هي مرحلة تكاد تقترب من حالة الاحتضار اذا لم يحصل ذلك التغيير الانقاذي في اطلاق المشروع الوطني العابر للطوائف والمذاهب، والمتحلل من الولاءات للخارج. إنّه الدور المنتظر للنخب الفكرية والثقافية والأكاديمة ذات الايمان العميق بلبنان الوطن والدولة والمجتمع الواحد.

*باحث وأستاذ جامعي

الكرامة

شبكة البصرة

الخميس 22 رمضان 1444 / 13 نيسان 2023

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط