بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

من المسؤول عن كارثة السودان 1

شبكة البصرة

صلاح المختار

الان، وبعد كل ما حصل في السودان، يتفق أغلب المراقبين الخارجيين والقادة فيه على أن ما يجري ليس أحداثا عفوية نبتت فجأة وانما هي نتاج تخطيط دقيق وتفصيلي مسبق من قبل جهات دولية اعتمدت أيضا على جهات اقليمية وعربية في تنفيذه، ولكن ما يهمنا الآن الوجه الأخطر في هذه الكارثة وهو عملية التورط والتوريط في توفير البيئة المناسبة لوقوع الكارثة ثم ضمان استمرارها وتوسيعها وتعميقها وديمومتها وصولا الى الهدف الاساس وهو تقسيم السودان، لذلك علينا أن نطرح التساؤلات التالية بجدية لأن الأمر متعلق بمستقبل السودان شعبا ووطنا وهوية، وتسمية الامور باسمائها هو المدخل الصحيح للبدء في إنهاء هذه الكارثة التي حلت بشعبنا في السودان.

وما دامت اغلب الجهات متفقة على أن ما يجري في السودان ليس أحداثا عفوية وإنما هي تنفيذ لمخططات مخابراتية قديمة وجديدة تقودها الولايات المتحدة الامريكية واسرائيل الغربية بمعاونة جهات عربية فان الواجب الوطني والقومي يفرض علينا أن نطرح الأسئلة الصحيحة كي نصل الى الاجوبة الصحيحة، وربما السؤال الاهم هو: من وقع في الفخ؟ وهل وقع رغما عنه ام بقرار منه؟ يقينا يوجد هناك من وقع في الفخ رغما عنه ولكن هناك ايضا من وقع في الفخ بقرار منه نتيجة دوافعه الخاصة المنحرفة.

ومن الضروري ايضا لتذكير بالملاحظة التالية لانها تساعد على فهم حقيقة ما يجري في السودان: عندما وقع ما سمي بالربيع العربي في نهاية عام 2010 انقسم الرأي حول تحديد طبيعة ما يجري، فكان هناك من يقول بأن ما يجري من انتفاضات بدأت في تونس ثم انتقلت في عام 2011 الى مصر واليمن وليبيا وسوريا هي ثورات شعبية حقيقية يجب دعمها من اجل ان تنجح في إسقاط الديكتاتورية والفساد، ولكن بالمقابل كان هناك من يؤكد أنها انتفاضات شعبية ولكن من حيث اشتراك الجماهير فيها، أما من حيث من يقودها ويحدد أهدافها وأساليبها وشعاراتها فهي مجاميع اعدت مسبقا من قبل أجهزة المخابرات الأمريكية دربتها في معاهد (الديمقراطية وحقوق الإنسان) خصوصا في صربيا، وكان المرجع الأساس في تربية هؤلاء واعدادهم هو كتاب ضابط المخابرات الأمريكية البروفيسور جين شارب المعنون (من الديكتاتورية إلى الديمقراطية: اطار تصوري للتحرر) وخلاصته أن إسقاط الانظمة المستبدة يجب ان يتم بوسائل سلمية وبلا عنف من خلال تعطيل الدولة والإضرابات والمظاهرات والمقاطعة إلى آخره.

والذي تبلور واتضح بصورة لاتقبل الجدل هو ان تبني (النضال السلمي الديمقراطي) في الانتفاضات ومنع العنف تبنته المخابرات الامريكية ومن دربته، كوائل غنيم وحركة شباب 6 ابريل في مصر، هدفه جعل الدولة والمجتمع يتفككان تدريجيا في بيئة احتدام الصراع وتصاعده وحرق نيرانه لاسس المجتمع والدولة فتنهار لعدم حسم الصراع وطرح حل عملي ممكن، فلا يبقى سائدا غير تواصل افشال الدولة! وذلك هو الهدف الحقيقي من النضال السلمي الديمقراطي، وعلى النقيض من تلك النظرية فان استخدام العنف الثوري في اسقاط النظام لايؤدي الى افشال ثم تفكيك الدولة والمجتمع بل ينحصر تأثيره في اسقاط النظام ومنع تواصل الصراع وهو ما يحفظ كيان الدولة ويمنع زج المجتمع في صراعات وجودية تفككه تدريجيا، فالعنف الثوري ينهي الانتفاضة بانتصار المنتفضين وبدء برنامجهم البديل في اعادة تشكيل النظام والدولة واجهزتها سليمة، كما ان المجتمع زادت حصانته لانه ثار ضد نظام فاسد واسقطه وفرض البديل الذي اراده.

فالانقلاب الثوري او استخدام العنف لاسقاط النظام يحبط خطة تواصل الصراع وتحويله الى فوضى تدمر كل شيء، وهذا مناقض للهدف النهائي لخطة جين شارب والمخابرات الامريكية وهو استخدام الانتفاضات الجماهيرية لنشر الفوضى لاجل تدمير الدولة والمجتمع، وهو ما رأيناه في العراق وسوريا واليمن وليبيا وفي دول اخرى غير عربية، واكدته كونداليزا رايس مستشارة الامن القومي الامريكي رسميا عندما اكدت (ان الفوضى الخلاقة هي الهدف المطلوب)، وما رأيناه في السودان هو التطبيق الحرفي لخطة جين شارب اي رفض استخدام العنف الثوري لحسم الصراع والبقاء اسرى لخطة النضال السلمي الديمقراطي والذي اوصل السودان الى كارثة الحرب والتي كانت هدفا مرسوما سلفا ومنع استخدام العنف الثوري لاجل الوصول اليها.

وبناء عليه فإن الانتفاضات الشعبية فيما اسمته هيلاري كلنتون وزيرة خارجية امريكا وقتها ب(الربيع العربي) وطبقا للرأي الثاني هو عمل مخابراتي هدفه اسقاط الانظمة المستبدة والفاسدة لتكون تلك هي الشرارة التي تشعل حرائق الكوارث العربية التي تهدم الدولة الوطنية وتخرب مؤسساتها، خصوصا الامنية والعسكرية،ليكون ذلك مقدمة لتفتيت الشعب وتقسيم الوطن ومحو هويته القومية، وخلال حوالي 12 عاما مضت كنا نؤكد فيها على أن ما سمي ب(الربيع العربي) ليس إلا ربيعا أمريكيا وعبريا، خطط له كي يدمر الأمة العربية ويمحو هويتها القومية بكافة اقطارها، ودون اي استثناء ولكن بالتدريج، وهذه الحقيقة هي التي سادت وثبت انها صحيحة عبر سنوات طوال من التجارب التي كانت كل أحداثها تؤكد بأن ذلك الربيع خدم اولا واخيرا الولايات المتحدة الامريكية واسرائيل الغربية واسرائيل الشرقية، وتضرر منه العرب شعبا ودولا.

الم يكن ذلك كافيا حينما انطلقت الانتفاضة السودانية وتبنت نفس المسارات السلمية التي شاهدناها في تونس ومصر وسوريا واليمن وليبيا ولمسنا ميدانيا نتائجها الكارثية، نقول ألم يكن ذلك كافيا للمنتفضين في السودان ليستخلصوا الدروس ويتجنبوا الوقوع في الفخاخ التي وقعت فيها الجماهير في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن وما زالت تعاني من كوارثها المستمرة والمتعمقه كلما مرت سنة؟

انصار الثورات الشعبية التي ظهرت في الربيع العبري- الامريكي ما زالوا حتى هذه اللحظة يتمسكون بتفسيرهم المضلل لطبيعة ما يجري، وفي السودان نرى الخطيئة الأكبر التي ترتكب منذ بدء الانتفاضة وهي السير في طريق ملغوم، والعجيب في هذا الامر هو ان هؤلاء ما زالوا يصرون على أن الانتفاضة في السودان يجب ان تبقى سلمية!؟ لذلك فمن حقنا ان نتسائل: ما دلالة تمسك البعض بالتفسير الخاطئ لما يجري وهو تفسير يدفع الجماهير إلى أن تناضل وتضحي بالدم والأرواح وخراب الكثير من الوطن ومؤسسات الدولة من أجل التحرر من الفساد والديكتاتورية ولكن النتيجة تكون مناقضة وهي الوصول إلى نفس النقطة التي وصلت إليها اليمن وتونس وليبيا ولبنان والعراق؟هل السودان الان في وضع يختلف عن وضع العراق وسوريا واليمن وليبيا؟ ام انه يتجه ليكون اكثر مأساوية؟ وهل هؤلاء ما زالوا يتمسكون بأن ما يجري في السودان هو انتفاضة شعبية اصيلة لا تأثير عليها من قبل المخابرات الامريكية وغيرها بعد كل ما شاهدناه في السودان؟

لنعد الى الذاكرة القريبة: عندما ابتدأت الانتفاضة السودانية نبهنا نحن وغيرنا الى ان فيها اكثر من خلل جوهري، واول خلل هو تبني اسلوب النضال السلمي الديمقراطي فقط والرفض العجيب حتى لاستخدام العنف الثوري للدفاع عن النفس او استخدامه في مرحلة الذروة اي عندما تنضج كل الظروف الموضوعية لان هذه العملية تحتاج الى العنف بشكل محدود يتركز على اسقاط النظام، الانتفاضة السودانية تجنبت قياداتها العنف الثوري في لحظة الذروة الثورية، وهي لحظة مرت بها كل ثورات الشعوب وحسمت بالعنف،فلم تنتصر الثورة بالنضال السلمي الديمقراطي الا اذا كانت معدة سلفا من قبل المخابرات الامريكية.

بل علينا الاشارة الى حقيقة تكشف حجم تبعية بعض قادة الانتفاضات العربية ومنهم في السودان وهي ان المخابرات الامريكية في لحظة الذروة في الثورات البرتقالية في اوربا استخدم المنتفضون العنف لاسقاط النظام بأمر من المخابرات الامريكية التي كانت عناصرها موجودة في الساحات وتقود العمل،كما حصل في جورجيا واوكرانيا حيث اسقط النظام بالقوة بعد تظاهرات واحتجاجات كثيرة، فما هي دلالات استخدام العنف لاسقاط الانظمة في بلدان اوربا ووسط اسيا، ومنع استخدامه في الاقطار العربية ومنها السودان؟ الدلالة الاهم هي ان امريكا لاتريد تدمير تلك الدول بل الاحتفاظ بها ومنع انهيارها لانها خططت لاستخدامها ضد روسيا وبالتالي فيجب عدم تدمير الدولة وتفتيت المجتمع لتكون تلك الدولة بمؤسساتها الاقتصادية والعسكرية وبمجتمعها السليم قادرة على استنزاف روسيا،فقامت بأمر ادواتها في الانتفاضات الشعبية او الجيش في تلك الدول بحسم الصراع بالعنف او بانقلاب، وهذا مناقض كليا لهدفها في الوطن العربي حيث ان خطتها تقوم على تقسيم الاقطار بواسطة الانتفاضات الشعبية والتي تمنع من حسم الصراع في لحظة الذروة بالعنف الثوري فتبقى تستنزف الشعب والدولة وتمزق المجتمع، حتى تنهار الدولة والمجتمع.

وهكذا مرت ثلاثة سنوات على الانتفاضة السودانية وكانت الجماهير تريد اسقاط النظام ولكن قيادات الانتفاضة كانت ترفض استخدام العنف في اللحظة الثورية الحاسمة، وهذا الخلل الجوهري ادى الى خلل جوهري اخر اخطر منه وهو الاعتماد على ادوات النظام وحراسه والتعاون معهم في صفقة كانت مؤشرا لوجود فخاخ سقطوا فيها، فالمراهنة على عبد الفتاح البرهان وحميدتي وهما ابرز حماة النظام السابق خطيئة كبرى، وليست خطا غير مقصود، لانها تجاهلت دروس الانتفاضات العربيه منذ عام 2011 والتي اكدت انها اعدت من قبل المخابرات الامريكية والاسرائيلية لتكون وسيلة لتدمير الاقطار العربية ومحو الامة العربية وهو هدف ستراتيجي واضح، وكانت درسا غنيا وواضحا جدا كان يجب التعلم منه في السودان وهو الاعتماد على القوى الوطنيه السودانيه المنتفضه في تصعيد الانتفاضه وايصالها للذروة وفيها يستخدم العنف الثوري من قبل قوى الانتفاضة لاسقاط النظام وانهاء الصراع، وبذلك تحمى الدولة والمجتمع من المخاطر المميتة للانزلاق في حرائق الصراعات المتعددة والتي نرى اولها الصراع الدموي بين عسكر النظام!

ولكن الذي فتح ابواب جهنم في السودان هو ان قوى الحرية والتغيير لم تستثمر لحظة الذروة لحسم الصراع بتحريك قواها داخل الجيش لاجل اسقاط النظام بالقوة وحسم الصراع ومنع تحويله الى وسيلة لاستنزاف الدوله والمجتمع والاقتصاد ونفوس الملايين من السودانيين الذين اخذوا يبتعدون عن الانتفاضه عندما تولى قيادتها عبد الفتاح البرهان وحميدتي الى جانب قوى الحرية والتغيير! وهذه نتيجة طبيعية عندما لا ترى الجماهير ان الهدف الاكبر لها لم يتحقق بل ان النظام السابق اطاح براسه فقط ونصب حراسه الاساسيين بدلا عنه وهما عبد الفتاح البرهان وحميدتي، فهل هذا التطور كان مبعث امل للجماهير ام العكس هو الصحيح؟

في اللحظة التي تم الاتفاق فيها مع البرهان وحميدتي بدأت قوى الحرية والتغيير بالتفكك والانقسام وصار بعضها مع العسكر وبعضها ضدهم، فدخلت الانتفاضة عنق الزجاجة وأخذت تظهر الحقيقة المؤلمة وهي أن كل تضحيات الجماهير السودانية بالأرواح وبالدم وبالعرق مهددة بالزوال دون نتيجه سوى اعادة تنصيب النظام السابق والاكتفاء بتغيير رأسه فقط! بل الأخطر منه هو أن الجماهير بدأت ترى ان الانتفاضة بدل أن تنقذ الشعب والوطن فجرت الغاما تدفع دفعا الى تقسيمه، والصراع بين البرهان وحميدتي الذي يجري الآن وضع السودان على حافة حروب ضروس اوسع واخطر ستشمل المنظمات المسلحة السودانية التي جمدت عملها طوال الفترة الماضية وستنهض مجددا فتحيي النزعات الانفصالية! والأخطر من ذلك أن اي طرف في الصراع كلما شعر بانه على وشك ان يهزم سيلجأ إلى ولايات معينة لإعلان التمرد المسلح فيها والتحصن هناك! وهكذا تصبح عملية تقسيم السودان في أكثر من مكان فيه،وهذا هو ما يدفعنا دفعا لإعادة النظر وعلينا أن نتساءل بعد كل ما حصل: من المسؤول عن توريط السودان في هذه الكارثة؟ هل هما البرهان وحميدتي فقط ام ان القائمة تشمل اخرين وبالتحديد من قوى الحرية والتغيير؟ ومادور السيد علي الريح السنهوري في تنفيذ هذه المؤامرة الامريكية والاسرائيلية في السودان؟ يتبع.

Almukhtar44@gmail.com

27-4-2023

شبكة البصرة

الجمغة 8 شوال 1444 / 28 نيسان 2023

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط