بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قراءة متأنية في الربيع السعودي الإيراني الجزء الثالث

شبكة البصرة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

يلاحظ مراقبو المشهد السياسي الإقليمي بعد توقيع اتفاق التفاهم السعودي الإيراني، أن إيران كلما نُشرت تسريبات عن أحد ملفات الخلاف بين البلدين، كانت تُسارع إلى نفي التطرق إليه من قريب أو بعيد خلال الاجتماعات، وكأنها تبادر إلى غسل يديها مبكرا من أي التزام قانوني، وتقطع الطريق على السعودية أو المجتمع الدولي وخاصة الصين راعية الاتفاق لإعطاء تفسيرات تراها خاطئة ولا تنسجم مع تفسيراتها الخاصة لذلك الاتفاق، وإذا ما أخذنا بهذه الممارسات الاستعلائية، غير الغريبة على الغطرسة الإيرانية الفارغة، فإننا لا يمكن أن نصدق ما يذكره المسؤولون الإيرانيون، استنادا إلى عشرات التجارب السابقة، منذ وصول خميني إلى السلطة في 11 شباط 1979، سواء في طرحها شعارات شعبوية لا تؤمن بها أو ممارسة أعلى درجات التدليس على الشعوب الإيرانية نفسها، ولعل أخطرها ما حصل في تاريخ ليس ببعيد، عندما عقدت طهران اتفاقية “فضيحة” مع الإدارة الأمريكية عام 1985، والمسماة (إيران غيت) أو إيران كونترا، وهي اتفاقية سرية بين الولايات المتحدة وإيران، نصت على تزويد أمريكا لإيران، “التي كانت منهمكة في حرب طاحنة ضد العراق في ذلك الوقت” لتعزيز قوتها في مواجهة العراق، بأسلحة متطورة، ومنع العراق من تحقيق النصر عليها، وشملت الصفقة قطع غيار لطائرات “فانتوم” التي كانت العمود الفقري لسلاح الجو الإيراني، وحوالي ثلاثة آلاف صاروخ من طراز “تاو” مضاد للدروع، وصواريخ أرض جو من طراز “هوك”، مقابل إطلاق سراح مواطنين أميركيين كانوا محتجزين في لبنان لدى مليشيا حزب الله اللبناني، وتم الاتفاق حينئذ بين جورج بوش الأب، الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس ريغان، والحكومة الإيرانية على أعلى المستويات، في العاصمة الفرنسية باريس، وبحضور آري بن ميناشيا مندوب المخابرات الإسرائيلية الخارجية “الموساد” في الاجتماعات السرية، كل ذلك كان يجري وراء جدران مغلقة بإحكام، من نظام كان يزايد على العرب في قضيتهم “القضية الفلسطينية” ويرفع عاليا شعار (طريق القدس يمر في بغداد) في أرخص تجارة كان يمارسها هذا النظام الفاسد والذي يكذب ويعرف أنه يكذب ولا يستحي من ذلك، نعم كان لا يخجل من شيء من أجل تحقيق أهدافه التي لا تقل سوءً عن أساليبه القذرة.

وتمت إجراءات الصفقة خلافا للقانون الذي كان الكونغرس قد أصدره في وقت سابق، والذي فرض حظرا على تمويل حركة “الكونترا” في نيكاراغوا، وكذلك منع بيع الأسلحة لإيران، إضافة إلى أنها شكلت خرقا لعقوبات الأمم المتحدة على بيع الأسلحة لإيران، وفي 25 أيار عام 1986 زار روبرت ماكفرلين مستشار الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان طهران متنكرا بزي واحد من طواقم الصيانة الجوية، وعقد اجتماعات مع كبار المسؤولين الإيرانيين بمن فيهم هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس الشورى وممثل الخميني في مجلس الدفاع الأعلى، وتسربت أنباء عن الاجتماع بأن ماكفرلين جاء بقالب كيك على هيئة خارطة العراق مع سكين لقطع الكيكة، مع ما يمثله ذلك الفعل من تطابق بين الهدفين الإسرائيلي والإيراني بتقطيع أوصال العراق.

فهل قرأت المملكة العربية السعودية هذا الملف الذي تم الاتفاق على بنوده في أكثر الأوقات التي ارتفعت فيها حدة العداء الإيراني مع الشيطان الأكبر كما كان سائدا في الخطاب السياسي والإعلامي لكلا البلدين؟ وهل استخلصت من سلوك إيران الملتوي والمناور درسا ينفعها قبل توقيع الاتفاق مع إيران التي لا تتورع بعقد أمتن الصداقات مع شياطين الأرض والفضاء الخارجي لتقوية مكانتها التفاوضية؟

هناك أسئلة كثيرة تفرض نفسها على الساحة السياسية، منها بل لعل أهمها، هل يتخذ محمد بن سلمان قراراته بمحض إرادته أم أنه يتعرض إلى ضغوط خارجية أقوى من أن يتمكن من مقاومتها؟ وما هو مصدر هذه الضغوط؟

هل يتعلق الأمر بتزايد الضغوط العسكرية على المملكة من جانب إيران، وبتنفيذ مليشياتها من الأراضي العراقية تارة ومن الأراضي اليمنية في معظم الأوقات؟ أم أن الأمر أكبر من ذلك وأبعد تأثيرا؟ أي أن ولي العهد السعودي يتعرض لضغوط ثقيلة من الولايات المتحدة وهي القوة التي كان يعلق عليها آماله الكبرى في مواجهة التحديات الخارجية التي تواجه بلاده إقليميا ودوليا واعتماده على الحماية الخارجية، أو الضغوط الداخلية التي تهدد مستقبله السياسي الشخصي من جانب كثير من الأمراء وكذلك المؤسسة العسكرية، الذين لا يروقهم أسلوب محمد بن سلمان في إدارة الشؤون السياسية والعسكرية وحتى الاجتماعية في بلاده وربما تقليص نفوذهم في البلاد وممارسة الرقابة على مواردهم وكيفية التصرف بها، فضلا على تحفظهم على طريقة وصوله إلى موقعه الحالي، بعد أن استبعد الأمير محمد بن نايف؟

لقد أوقع محمد بن سلمان نفسه في أكثر من إعلان سياسي وعسكري لم يكن قادرا على تنفيذها، أو على وجه الدقة لم يكن مسموحا له بأن يقدم عليها، فلا هو اقتبس من إيران أسلوبها الناجح في قيادة الحروب بالإنابة، فيلجأ إلى تشكيل خلايا أو مليشيات “منفلتة” كما فعلت إيران عندما شكلت حزب الله ومليشيا الحوثيين والمليشيات العراقية، فيزودها بمختلف الأسلحة بما فيها الصواريخ البالستية لتقوم بقصف الأراضي الإيرانية، وخاصة منصات تصدير النفط ومناطق انتاجه، على أن يتم القصف من المناطق الواقعة خارج السيطرة الحوثية في الأراضي اليمنية، وبذلك يتحقق توازن الردع والرعب، صحيح أن نوعية الأهداف بين البلدين لا تتكافأ في قيمتها الاستراتيجية وتكاليفها المالية، إلا أن هذا لم يرد بخاطر المسؤولين المحيطين ببن سلمان، بل ربما كانوا يتحسسون دروس الماضي القريب بعد أحداث 11 أيلول 2001، وقانون جاستا الذي كان بمثابة مطرقة توشك أن تهوي على رؤوسهم في أية لحظة.

لقد نزع بن سلمان من بين يديه أهم سلاح استراتيجي يستطيع به مواجهة العالم أجمع، وهو قوة الإسلام ومكانة المملكة كمهوى لأفئدة أكثر مليار ونصف مليار مسلم، يتعاطفون معها وعلى استعداد لفداء المقدسات الإسلامية بأرواحهم، حتى أن العالم كان قد أطلق على السعودية لفظ بلاد الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وعلى العاهل السعودي لفظ خادم الحرمين الشريفين، وذهب كثير من المسلمين إلى إعطاء صفة القدسية على أرض المملكة من أقصى شمالها إلى أبعد نقطة في جنوبها، حتى أن الغضب الشعبي الإسلامي، كان يثور في حال حصول أي ممارسة خاطئة ولو حصلت في معبر عرعر أو أقصى جنوبي نجران أو المنطقة الشرقية، لأنها حصلت في ما يعتبره المسلمون بلد المسجد الحرام ومسجد الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في أراضيها، لقد كان الدور الذي اضطلعت به المؤسسة الدينية في البلاد، ضمانة لمنع الخروج على القيم الإسلامية، كما يعتقد كثير من المسلمين، لكن محمد بن سلمان كان قد بدأ وسط تشجيع مليء بالخبث من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، بتقليص دورها ووضع ضوابط على ما يقوله خطباء المساجد وحتى رفع الأذان تعرض لتدخل حكومي جائر، وهذا ما عزز من دعوة بعض الأطراف المشبوهة والموالية لإيران، بالإشراف على إدارة موسم الحج وشؤون الحرمين إسلاميا، وهذا هدف استراتيجي لإيران وكأنها تسعى لتحويل الديار المقدسة إلى أكبر سرك في الهواء الطلق، يحفل بكل ما هو شاذ ومعيب، بحجة أن وضعهما تحت سلطة رجل واحد أو بلد واحد، سوف يجعلهما رهينة لتقلبات السياسة والضغوط التي تتعرض لها الدولة السعودية من الخارج، بل والمزاج الخاص بالحاكم، ومضى محمد بن سلمان بخطواته الهادفة لمصادرة خيار الأراضي المقدسة لدى أكثر من مليار ونصف المليار مسلم وكأنها ملكية خاصة له أو لأسرة آل سعود، فبدأ بخطوات متعجلة وكأنه يسابق نفسه، وهدفه النهائي من ذلك، الغاء الطابع الديني للبلاد كلها تحت لافتة وضع حد للتزمت الذي كان سائدا، فبعد أن كانت هيئة الأمر بالمعروف أقوى مؤسسة لضبط التوجهات الاجتماعية في المملكة، حلت محلها بنفس القوة ولكن بالاتجاه المعاكس، وهي هيئة الترفيه، وكأن ما يسمى بالتزمت الديني لا يُرد عليه إلا بهذا الانفتاح الخارج عن كل الضوابط الدينية التي جاء بها الإسلام الحنيف، لقد مضى ولي العهد السعودي إلى مديات متسارعة في قلب صورة المملكة أمام الرأي العام العالمي رأسا على عقب، على نحو أدهش من شجعه عليها، ولقد خسرت المملكة العربية السعودية كثيرا من سمعتها كراع أمين على المقدسات الإسلامية، بقرارات محمد بن سلمان والقاضية بجلب الفرق الموسيقية والغناء في هذه الأرض المقدسة بصورة مخدشة للحياء والتقاليد الدينية والاجتماعية السائدة الكثير من مكانتها في العالم الإسلامي، وعكست استياء صامتا داخل البلاد أحيانا، وفي أحيان أخرى ووجهت برفض قوي، دفع العلماء الرافضون له ثمنا غير يسير من حريتهم، وتم استبعادهم من المنابر، ولاحظ المراقبون المنصفون أن المنظمات الحقوقية في أوربا وأمريكا التي كانت تُقيم الدنيا ولا تقعدها، إذا ما تم اعتقال رجل دين شيعي واحد في السعودية، ولكن حكومات أوربا وأمريكا والمنظمات الحقوقية والإنسانية، صمتت صمت أهل القبور إزاء اعتقال العشرات من كبار العلماء في البلاد أو منعهم من الخطابة وإمامة صلاة التراويح، أللهم إلا إذا أرادت تلك المنظمات توظيفها لغرض سياسي مضاد للسعودية لاتخاذ خطوة ما تريدها تلك الجهات، على العموم سلمت السعودية بقراراتها المؤسفة، الراية لإيران كي تدعم صورتها في العالم، باعتبارها الدولة الأكثر تمسكا بأهداب الدين، على الرغم من كل الضغوط التي تعرضت لها ماضيا وحاضرا وقد تتعرض لها مستقبلا.

لا أحد يناقش حق السعودية ولا طموحات محمد بن سلمان في النهوض بالبلاد، في مجالات السياسة والاقتصاد، وجعلها في مصاف الدول المتقدمة في العالم، بسبب ما تمتلكه من موارد ومداخيل هائلة، فلا يجوز أن ترى السعودية بلدانا أقل منها ثراء وأصغر مساحة وتأثيرا، وهي تقطع خطوات أسرع مما تفعل هي، ولذلك على الحكومة السعودية أن تقدم أفضل خدمات التعليم والصحة والعمران والاسكان للمواطن، ولكن هذا يجب أن يتم بعيدا عن نزع الطابع الديني المقدس لكل من مكة المكرمة والمدينة المنورة بل والحجاز كلها.

العراق العربي

شبكة البصرة

الثلاثاء 13 رمضان 1444 / 4 نيسان 2023

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط