بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الذكاء الاصطناعي والأدب القمامة

شبكة البصرة

نواف شاذل طاقة

في أول تجربة عمل لي في سلك الخدمة الخارجية العراقية في الهند عام 1981؟ ذهبت للقاء مسؤول في مصرف هندي كبير في العاصمة نيودلهي مستفسراً منه عن مصير حوالة نقدية تأخر وصولها. دهشت لدى دخولي مكتب المسؤول المصرفي حين وجدته يجلس في صالة واسعة يحيط به نحو عشرين محاسباً يجرون عمليات حسابية بحاسبات يدوية بدائية ذات خرز مدور بألوان متنوعة، يحركون اصابعهم يميناً وشمالاً لاحتساب النتائج وتدوينها على الورق. بعد الاستفسار عن مصير الحوالة، دفعني فضولي الى توجيه سؤال مباشر الى المسؤول المصرفي. قلت له: لماذا لا تستخدمون الحاسبات الالكترونية المتوفرة في الأسواق بأسعار زهيدة؟ قال: إن استخدام الحاسبات الالكترونية يعني أننا سنستغني عن أكثر من نصف هؤلاء الموظفين، وبالتالي سيفقد هؤلاء مصدر رزقهم. حدث ذلك في عهد رئيسة الوزراء الراحلة انديرا غاندي ذات الميول الاشتراكية والتي عرف عنها محاربة الفقر، وكان المصرف حكومياً. وهكذا، عندما شاهدت عمال البناء في عمارة تُشيّد قرب داري في العاصمة الهندية وهم يقفون عند كل طابق يكتمل بناؤه يتلقفون بأياديهم طابوق البناء من رفاقهم العمال الواقفين في الطابق الأدنى، ومن شخص إلى آخر حتى تصل إلى وجهتها في أعلى طابق، من دون استخدام أي رافعة آلية، أدركت أن القطاع الخاص حريص أيضاً على تحقيق نظام حماية اقتصادية – اجتماعية كتلك التي شاهدتها قبل ذلك في المصرف. لا أعرف كيف تسير الامور اليوم في الهند، لكن اصدقاءً هنود أخبروني قبل سنوات أن أعداداً هائلة من أبناء جلدتهم مازالوا يعيشون فقراً مدقعاً، ويبحثون عن فرص عمل خارج بلادهم لأن متوسط أجر العامل الشهري هناك أقل من 90 دولاراً، على الرغم من ان الاقتصاد الهندي اليوم يعد الخامس عالمياً.لم تعد تلك الحاسبة اليدوية مصدراً للمشاكل ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي، بعد أن بات مبدأ توفير فرصة العمل للشعب مرتبطاً بشكل كبير بموضوع الذكاء الاصطناعي الذي يشغل اليوم اهتمام العالم، والذي يعده كبار العلماء امتحاناً سيحدد مصير البشرية. إن المبدأ الذي شاهدته يطبق في نيودلهي قبل أكثر من أربعين عاماً ما برح مرتبطا بمصيرنا. غير أن هذا المبدأ بقي موضع خلاف بين علماء الاقتصاد والاجتماع، إذ يرى البعض أن التطور التكنولوجي الهائل في مجال الذكاء الاصطناعي خلق معه فرص عمل جديدة حافظت على التوازن بين العرض والطلب في سوق العمل، وأن الذكاء الاصطناعي قادر على خلق فرص عمل جديدة. بالمقابل، لا تنفك وكالات الانباء عن نقل أخبار تسريح آلاف العاملين من وظائفهم في شركات كبرى مثل غوغل وتويتر وأمازون على الرغم من تسجيل هذه الشركات أرباحاً خيالية. لا اعرف كيف سيعيش هؤلاء، لكن المنطق الذي بات مقبولاً في كل مكان هو ان الشركة تخسر وأن المساهمين يشتكون، ولذلك يجب تسريح العاملين. في هذا الصدد، يذكر بعض الاقتصاديين أن المساهمين لم يخسروا عملياً، بل ان المستثمر الجشع وجد أن تسريح العاملين سيجلب له أرباحاً مضافة، وأن عدم تحقيق هذا الربح الافتراضي هو خسارة. هكذا شاهدت مؤخراً في عواصم كبرى موظفين يقولون إنهم مهددون بالطرد من وظائفهم وهم يعملون من ديارهم عن بعد لمدة يومين أو ثلاثة في الأسبوع، وأن شركاتهم انتقلت إلى مبان أصغر حجماً تقليصاً لنفقاتها. وفي سياق تكريس ممارسات اقتصادية مجحفة يفرضها النظام الرأسمالي المتوحش، يؤكد البروفسور روبرت ريك، وزير العمل السابق والاستاذ السابق في جامعة بيركلي الأمريكية، أن رواتب رؤساء مجالس الادارة في الشركات الامريكية الكبرى ازدادت بمعدل 1460 بالمئة قياساً بالعام 1978? في حين بقي متوسط أجر العامل الأمريكي منذ ذلك التاريخ حتى عام 2022 متوقفاً عند 7.25 دولاراً في الساعة الواحدة.

 

الذكاء الاصطناعي وصناعة الأدب

لكن الظلم والاجحاف الاقتصادي، وعلى الرغم من خطورته، لم يتوقف عند هذا الحد. كانت المخاوف حتى الأمس القريب منصبة على طبيعة النشاطات الاقتصادية التي تمس حياة الكادحين بشكل كبير، لكن التخوف من الذكاء الاصطناعي بلغ مديات غير معهودة، دفعت مؤخراً نقابة الكتاب الامريكيين الى التحذير من مغبة تمادي الذكاء الاصطناعي في التطفل على مهنة الكتابة والتأليف، فدعت الى اعتماد قوانين تحول دون حرمان الكتاب من القدرة على الابداع. وتخشى هذه النقابة أن يلجأ المنتجون الى استخدام الذكاء الاصطناعي في انتاج نصوص مسرحية او اذاعية ذات مستوى مقبول نسبياً. وقد تعززت هذه المخاوف قبل أسابيع عندما أعلن جيفري هنتون، “الأب الروحي” للذكاء الاصطناعي وأحد أبرز علماء شركة غوغل العملاقة سابقاً، أنه قرر ان يكشف بعض مخاطر الذكاء الاصطناعي التي اعتبرها مخيفة للغاية لا سيما المخاطر الكامنة في الاكتشافات التي أحرزها العلم في حقل ما يعرف باسم (chatbot)? وهو عبارة عن برنامج اصطناعي قادر على انتاج نصوص أدبية مقبولة نسبياً. ولتقريب فكرة هذه المخاوف، سيكون بوسع هذا البرنامج أن يستحضر أعمال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم المخزونة في ذاكرته ليخرج بقصة قصيرة أو سيناريو فيلم، أو أن يوظف أشعار بدر شاكر السياب أو نزار قباني في تأليف قطعة نثرية مستوحاة من قصائدهما، ومن يدري فقد يستغل زعماء الميليشيات في عالمنا العربي الحزين البرنامج في إنتاج نشيد مستوحى من أشعار المتنبي يُمجد بصنائعهم. سينجز هذا العمل الأدبي الضحل بتوجيه من السلطات العليا المشرفة على هذا البرنامج خدمة لأهدافها التي تسعى إلى السيطرة الكاملة على عقولنا ومقدراتنا وتحقيق مكاسب اقتصادية أكبر لها.

 

مخاوف أورويل

ما يخشاه اليوم العلماء كان قد حذر منه الكاتب والروائي البريطاني جورج أورويل قبل أكثر من سبعين عاماً. كان الدفاع عن الحرية الهاجس الأكبر لدى أورويل حين قال “إن الحرية الفكرية تعني حرية أن تكتب ما تراه وما تسمعه وما تشعر به، وألا تكون مُجبراً على فبركة حقائق ومشاعر خيالية”. خشي أورويل من أن تمارس الأنظمة الشمولية سلطة تعسفية تَستخدم من خلالها الكذب، الذي رآه مرافقا لطبيعة هذه الأنظمة، كي تمنع ممارسة أي تسجيل “صادق للحقائق أو الصدق الوجداني الذي يتطلبه الابداع الأدبي”. وقد عبّر أورويل عن مخاوفه هذه في مقالة نشرها عام 1946 تحت عنوان “منع الأدب”، مُحذراً من احتمال “أن تحل منتجات الأفلام والاذاعات بشكل كامل محل الروايات والقصص”، متوقعاً احتمال أن يتمكن نوع من أنواع قصص الخيال المثيرة ذات المستوى الضحل من تسيّد المشهد. اعتقد أورويل أن مثل هذه الأعمال الهابطة يمكن أن تنتج بطريقة “حزام النقل الصناعي” ما سيتمخض عنه تراجع الابداع البشري إلى أدنى مستوياته. لفت أورويل إلى المكننة التي تغلغلت بين طيات صناعة الافلام والبث الاذاعي، كتلك التي دخلت إلى حيز الاعلانات التجارية والمواد الدعائية المرافقة للعمل الصحفي، مشيراً في هذا الصدد إلى أفلام ديزني، التي تنتج صناعيا عبر عمليات ميكانيكية. يخلص أورويل إلى القول: “من المحتمل أن يتم انتاج الأدب بهذه الطريقة في مجتمع شمولي.. وسيتم القضاء قدر الامكان على الخيال، بل حتى على الوعي، في عملية الكتابة”، وستكون هذه الكتابات أشبه بخط انتاج سيارات خرجت توها من المصانع، مؤكداً أن مثل هذه النتاجات ستكون “مجرد قمامة”. يبدو لي اليوم أن العالم متجه نحو أدب أقرب إلى القمامة كما توقع أورويل. لكن ما لم يتوقعه هذا الأديب العبقري هو أن هذا المستوى الهابط من النتاج الأدبي لن يصدر عن أنظمة شمولية، بل سيخرج من رحم أنظمة ديمقراطية خاضعة لهيمنة الرأسمالية المتوحشة، والتي باتت بدورها راعية الظلم والشمولية والتطرف.

الزمان

شبكة البصرة

الاحد 15 ذو القعدة 1444 / 4 حزيران 2023

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط