Untitled Document

شبكة البصرة منبر العراق الحر الثائر
print
علي عفلق وعبودية المواجيز


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

علي عفلق وعبودية المواجيز

شبكة البصرة

صلاح المختار

بين عامي 1958 و1963 ازدهرت الثقافة الوطنية والقومية في العراق بشكل غير مسبوق بسبب الصراع الذي احتدم بين القوميين العرب وطليعتهم حزب البعث العربي الاشتراكي، وبين الحزب الشيوعي العراقي وديكتاتورية قاسم، وكان صراع الفكر لا يقل أهمية عن الصراع الدموي بينهما، لذلك كان من الطبيعي أن يقوم البعثي باستغلال موارده المادية المحدودة لشراء الكتب كي يستطيع خوض جدل ونقاش مع مختلف الأطراف السياسية، وكانت الجماهير تتجمع حول من يناقشون ويستمعون الى الطرفين باهتمام وانتباه كل يقدم حجته ليثبت صحة وجهة نظره، وهذا الواقع كان يفرض علينا الا نترك كتابا جديدا لمفكر قومي عربي أو عالمي إلا ونقرأه، ولكن مواردنا المحدودة آنذاك وكنا شبابا صغارا لا تسمح لنا بشراء الكتب إلا كل بضعة أسابيع نقوم خلالها بتوفير بعض المبالغ البسيطة من المصروف الذي تقدمه العائلة لنا فنشتري بها حوائجنا الأساسية في المدرسة عندما نجوع ونعطش، والبقية نوفرها لشراء كتاب جديد، وهكذا بنى المناضل البعثي عمارته الفكرية والنفسية في تلك المرحلة.

وربما يسأل كثيرون: من هو علي عفلق؟ علي عفلق مناضل بعثي من الكرخ وكان طويل القامة نحيل الجسم يشتغل في النهار عامل بناء، او اي عمل اخر يتاح، وفي الليل يداوم في المدرسة، وكنا آنذاك طلاب متوسطة، وكان علي عفلق يوفر لعائلته الفقيرة موارد إضافية يساعد بها والده، ولكن علي عفلق واسمه الحقيقي هو علي الخزرجي، كان حبه للقائد المؤسس ميشيل عفلق رحمه الله يطغى على مشاعره، ومن شدة حبه للقائد المؤسس أطلق عليه اسم علي عفلق وأشتهر به بين الرفاق البعثيين في منطقة الكرخ، وكان صوته هادرا يصلح أن يكون مذيعا بطبقات صوتية مؤثرة وكان يستمع بشغف الى تعليقات المرحوم احمد سعيد من اذاعة صوت العرب التي كانت تبث من القاهرة، ويأتينا في اليوم التالي، سواء كنا متجمعين في زاوية الشارع أو نجلس في المقهى، ليعيد علينا تعليقات احمد سعيد بصوته الجهوري، فيلتف حوله ابناء المحلة صغارا وكبارا ليستمعوا إلى صوته المدوي وهو يقلد احمد سعيد.

كان علي عفلق، اطال الله عمره ان كان حيا ورحمه الله أن توفاه الله، يوفر جزءا مما تقدمه له عائلته من الأجور التي يقبضها من عمله ويسلمها لعائلته فتعطيه مبلغا بسيطا منها ولكنه مبلغ اكبر من المصروف (الخرجية) المقدم لنا من عائلتنا، وكان يتجول في أوقات فراغه في المكتبات بدل السينمات ومناطق اللهو ليطلع على الكتب الجديدة ويشتريها، وكانت مكتبته عامرة تضم مراجع الفكر البعثي والقومي اضافة الي ما يتصل بالتيارات السياسيه العربية والعالمية.

كنا ونحن نعتمد على المصروف الذي تقدمه لنا عائلتنا نشتري مما نوفره الكتب بقدر اقل منه بكثير، فنلجأ إليه لاستعارة الكتب منه لنقراها، وكان علي عفلق لايقرأ غالب الكتب التي يشتريها لكثرتها ولانشغاله بالعمل البدني والدراسة، وكنت اكثر المستفيدين من كتبه مثلما كنت اقرب الناس له، ولم يكن يمضي اسبوع على أي منا الا ونقرأ على الاقل كتابا واحدا، لأن الصراع كان مزدوجا:فهو صراع سياسي دموي من جهة، وصراع فكري صاخب من جهة ثانية، ولم نكن نستطيع أن نخوض هذا الصراع إلا بالقراءة الكثيرة، وكنا نتسابق في القراءة، وكان مسؤولنا الحزبي يقدم حوافز لمن يقرا اكثر من غيره ويقدم خلاصة لما يقرأه في الاجتماع الحزبي او في الندوات التي نقيمها في المقاهي والشوارع، وكانت افضل الندوات تلك نقيمها في المقاهي المفتوحة في الهواء الطلق فتنجذب الجماهير اليها وتتفاعل مع المحاضر وتصفق له، وهكذا تحول البعض الى رموز معروفة ثقافيا وعنفيا لان الصراع كانت تغلب عليه المعارك بالسكاكين والمسدسات والعصي، وتميز البعثي العقائدي وقتها بانه ايضا مقاتل شرس، وكنت شخصيا، ومثل كثيرين، أجمع بين المسدس والكتاب معا، وبنفس القدر من الاهمية!

كان لا يصدر كتاب جديد من أي دار نشر عربية او عراقية الا ونقرأه بشغف، وكنا نقرأ الفكر الماركسي بعمق لاننا كنا نتجادل معهم، الامر الذي يفرض علينا معرفة عقيدتهم من اجل الرد الموثق، وكنا نقرأ اضخم كتاب في اسبوع لكي نحوله لرفيق اخر ونحدد له الاسبوع كي يكمله ويسلمه لرفيق اخر، وهكذا يتم تداول الكتاب بين الكثير من الرفاق، وغالبا ما يكون عائدا إلى مكتبه الرفيق علي عفلق.ذلك هو العصر الذهبي للثقافة البعثية في العراق التي جعلت المقوله الشهيره تسود في الوطن العربي وهي (ان الكتب تؤلف في القاهرة وتطبع في بيروت وتقرأ في العراق).

وبعد ثوره 17 تموز عام 1968 اهتمت قياده الحزب بالثقافة بنفس الطريقة التي كان يهتم بها كل بعثي قبل الثورة، وكان للرفاق الشهداء عبدالخالق السامرائي وصدام حسين وطارق عزيز وسعدون حمادي وعبدالله سلوم السامرائي وشفيق الكمالي وغيرهم الدور الابرز في التنمية الثقافية، لادراكهم بانه بدون سلاح الثقافة لا يمكن للمناضل ان يكون صامدا طوال فترات النضال. وكانت اول مرة اعرف فيها الشهيدين عبدالخالق السامرائي ومحمد محجوب في نهاية عام 1958 عندما حضرا الى محلة سوق حمادة في الكرخ والقى الشهيد عبدالخالق السامرائي محاضرة عن اهمية الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، وتجمعنا في الشارع الذي تقع فيه المقهى الذي القيت فيه المحاضرة وهو مقهى عمي المرحوم سالم المختار.

ومن البديهيات البارزة في مرحلة النضال السري ان فيه منعطفات خطيرة ومعقدة يصبح فيها الصمود مرهونا بدرجة الوعي وليس بالشجاعة فقط، البعثيون كانوا من أبرز شجعان العراق، وهذا امر مفروغ منه، ولكن هذه الشجاعة في الاصل كانت مستمدة من التربية العشائريه والعائلية والمناطقية -الجهوية- فابناء المنطقة الواحدة يتفاخرون بالصلابة والشجاعة والتحمل الشديد، وهي معايير الرجولة انذاك، فالعراقي لا يسمى رجلا الا اذا كان صلبا وقويا ومتحديا، ولكن هذه الشجاعه الفطرية او التربوية لا تنفع عندما تتعقد الصراعات وتصبح غامضة ولايمكن فهمها بصورة سهلة، وتلك الحالة تحتاج الى وعي عميق وواسع، ولهذا نرى ان ابناء العشائر عندما تتعقد الامور يقعون في فخاخ الانا ولدينا مثال يعرفه الجميع وهو ما حصل في الانبار: فمثلما كانت المركز الرئيس للمقاومة العراقية عقب غزو العراق فانها ايضا اظهرت الصحوات التي حاربت المقاومه والتي كان كثير من افرادها جزءا منها او داعمين لها! وهذا التحول منبعه تدني الثقافه والوعي، فلو كان الانسان معتمدا على ثقافة عميقة لاستطاع ان يدرك بان هذا النوع من التحول هو اولا وقبل كل شيء اهانة للفرد نفسه، وثانيا انه يخدم اعداء الامة الذين كان يحاربهم بالسلاح، لكنه في لحظة انقلب وذلك لغياب الوعي او ضعفه، او انه متعلم فقط اختار طريقا سهلا وهو نداءات الذات له بان يتحول من اجل ان يبقى وان يستفيد ماديا!

هذه الحاله تظهر حينما يغيب الوعي او يضعف وظهرت بعد غزو العراق حيث ان هناك مقاتلين كانوا شجعانا وتضرب بشجاعتهم الامثال ولكن حينما تقدمت قوات الاحتلال واخذت امريكا تستخدم اسلحة غير معروفة، وحدث التدمير الهائل للجيش ومقرات الحزب انهار بعضهم، وكان ما يحركه أساسا هو شجاعته وهذه كلها تبخرت في لحظة فانهار معنويا وذلك لمحدودية وعيه، وعجزه عن تصور معركة بهذا التعقيد!

أن تدني مستوى الوعي الناتج عن عدم القراءة الموسعة بصفتها المصدر الرئيس للوعي ثغرة خطيرة في تكوين المناضل، فعندما لا يقرأ الا المواجيز يصبح منعزلا عن بيئته الواقعية وعاجزا عن فهم ما يجري وكيفية مواجهته، خصوصا وان التحولات السياسية معقدة وغامضة وتتحكم بها أساليب المخابرات المدروسة نفسيا الامر الذي يسجن ذوي الوعي المتدني في متاهة لا يعرفون كيف يخرجون منها! أن قوة الإنسان تنبع من قيمه ومبادئه ولكن السؤال يبقى هو التالي: ما هي المبادئ والقيم؟ انها منظومة وعي يجب ان يكتسبها الإنسان كي يستطيع استخدامها كقوة مضافة لشخصه، والقراءة توفر للانسان اكتساب التجارب البشرية كي لا يكرر أخطاء غيره، ويتعلم الدروس مما يقرأ، فلا يبدأ من الصفر في نضاله بل مما انتهى اليه الاخرون الذين يقرأ لهم او عنهم في الكتاب، تجارب الآخرين التي وضعت في كتب تنتقل من الكتاب إلى عقول القراء وتصبح جزءا من مكونات وعيهم وتتوسع نظرتهم وتصبح ابعد واعمق ويتعمق إدراكهم الى حد كبير، وبالتالي يستطيعون بقوة الشجاعة المدمجة بالثقافه والوعي ان يكونوا خير المناضلين الذين لا تحيرهم اوضاع غامضه ولا تخيفهم مفاجأت عسكرية او أمنية مميتة، بل يواصلون السير إلى امام وهم يعرفون الخطوة التالية بقوة وعيهم.

ان المعارك المتعدده الجبهات التي فتحها الغرب والصهيونية واسرائيل الشرقية على امتنا العربية في العقود الماضية لم تكن فقط لكسر ارادتنا واحتلال وطننا العربي الكبير بل كانت ايضا تستبطن هدفا اخر غير معلن: ففي اللحظة التي يجد بها الانسان نفسه منغمسا بصراع دموي فان وقت القراءة يتقلص، وكلما ازدادت حدة الصراع تقلصت القراءة، لهذا فان مخططات الغرب والصهيونية واسرائيل الشرقية تنطلق من فكرة انه كلما اشغلنا العرب بصراعات خطيرة ابتعدوا عن الثقافة فيتدهور وعيهم وبالتالي يصبحون عاجزين عن فهم ما يخطط لهم، وهكذا يصبح المناضل العربي بطلا عظيما اسطوريا ولكنه ينتهي مصيره بالاستشهاد دون تحقيق اهدافه، ولو ان هذا الذي استشهد امتلك وعيا بقدر قدرته على التضحية لكان ابتكر وابتدع طرقا للنضال تستطيع ان توصله الى الهدف، ولكن تدني ثقافته جعلت طريقة تفكيره محصورة بصد الهجمات! وهذا هو المقتل في المناضل ففي اللحظة التي يفقد فيها القدرة على التفكير المعقد والعميق في كيفية الرد الناجح تصبح خياراته سطحية وفاشلة لانها رد فعل.

قراءة الكتب والتقارير والمجلات الفكرية والستراتيجية والوثائق الشارحة لخطط الاعداء والاطلاع على بقية العلوم هي الزاد المطلوب للمناضل كي يصبح كاشفا للفخاخ المعدة له وهي الذخيرة الاساسية التي تضعه في مكان عال يكفي لرؤية كل خارطة الصراع امامه، فيصبح تلقائيا مسيطرا على الساحة، وتلك من شروط النصر. والذي لا يقرا الا المواجيز سيبقى عاجزا عن حماية نفسه من غول التردد والغموض وبالتالي الخوف الذي يأكل شجاعته.

كلنا عشنا العقود الاخيره وراينا كم كان كثيرون منا لا يفهمون اصلا ما بعد الخطوة التالية للامريكان والاسرائيليين والايرانيين، وكانوا يكتفون بما يطرح رسميا من مشاريع تبدو ايجابية ولكن ما تستبطنه هو تحقيق نفس اهداف الاحتلال التي قاومها هؤلاء، وهي دون ادنى شك مشاريع للخداع، ولكن الوعي الهابط كان يزين لهم ان المرحلة تقتضي قبول الامر الواقع دون معرفة ان موقفهم سيؤدي الى انهاء الوطن! من هنا تبدا رحلة ذوي الوعي المنخفض فيصبحون مضطرين للتكيف مع متطلبات وجودهم في فخ قاتل وهكذا يفقد الانسان براءته ويصبح تابعا لعدوه.

الثقافه هي السلاح الاهم للمناضل ولا يمكنه ان يصبح بطلا ويستمر في بطولته بدون الوعي، والوعي لا يعني قراءة مواجيز، فهذه المواجيز لا تقدم لنا الا ما يسمى بصيص ضوء، وهو ضوء يكفي لرؤية بقعة صغيرة فقط من خارطة ضخمة فيبقى اغلبها ظلاما دامسا، وبما ان طريقنا مظلم وطويل ومحاط بغابات تقطن فيها مختلف انواع الوحوش فاننا فقط بالوعي نستطيع ان نتوقع ما في هذا الطريق وما حوله من وحوش وتحديات ونتوقعها بحسابات مسبقة، وهذا من خصائص المثقف الواعي لان بيده مصدر نور شامل يغطي كل الغابة، وذلك يقودنا الى ملاحظه ان بعض الذين رفعوا السلاح بوجه الاحتلال الامريكي او الاحتلال الايراني تحول الى اداة لهما لانه متدني الوعي!

حينما يكون الانسان غير مثقف ويكتفي بالتعلم وقراءة صفحات في الانترنت ويستمع الى اخبار التلفزيون سيبقى وعيه سطحيا وبالتالي يصبح هشا قابلا للانكسار في اية لحظة. الوعي العربي تراجع في الثمانينات ولم يكن ذلك صدفه ففيها تعرض العراق ومعه الامة العربية لاكبر تحول ستراتيجي خطط له الغرب والصهيونية وهو شن خميني حربا على العراق طالت ثمانية اعوام وبعدها اختلقت ازمة الكويت ثم الحصار ثم الغزو، وهذه تحولات زادت من غموض الاحداث، وبنفس الوقت كان تعدد التحديات وخطورتها غير المسبوقة تجبر الانسان على التركيز على كيفية استمراره في الحياة الصعبة والقاسية. هذا الحروب والازمات الحادة دامت علينا فما تكاد واحدة تنتهي حتى تفرخ 10 مثلها، وكثافة التحديات تلك هي التي ابعدتنا عن الثقافة تدريحيا، وهذه ليست ناتجا ثانويا بل هي جوهر مخطط اصبح مكشوفا وضعه الغرب والصهيونية ونفذته اسرائيل الشرقية.

اما العامل المكمل في هذا المخطط الشامل لاخضاع العالم كله، فهو انشاء الانترنت بكل برامجه التي نراها الان كوسيلة لاستعباد الانسان وابعاده عن الثقافة والتعلم العميقين لانها تزود الانسان بمعلومات عامة سطحية لكنها شديدة الاغراء تتعلق بالحياة والطب والفضاء...الخ، وهي مصممه اصلا لكي يبقى وعي الانسان سطحيا، ولهذا فإن المتاح من المصادر العلمية والكتب، وهي كثيرة جدا، لا يقراها الا نفر قليل، بعد ان استعبد الانترنيت والموبايل واللاب توب الانسان وحوله الى روبوت حي! فما هو الحل؟

الحل هو اعادة بناء الوعي مهما كانت الظروف معقدة وصعبة، فالوعي هو ضمانة كسر حصارات القتل، ولا وعي الا بالقراءة العميقة والشاملة. الا يستحق منا الرفيق علي عفلق التحية ومشاعر الحب والامتنان؟

Almukhtar44@gmail.com

21-3-2024

شبكة البصرة

الجمعة 12 رمضان 1445 / 22 آذار 2024

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط

print