Untitled Document

شبكة البصرة منبر العراق الحر الثائر
print
الجيران في فلسفة الدكتور عبد الستار الراوي


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الجيران في فلسفة الدكتور عبد الستار الراوي

شبكة البصرة

الدكتور رعد البيدر

لمن لا يعرفهُ -هو أستاذ الفلسفة بجامعة بغداد، المُفَّكِر، الشاعر، الفنان، الدبلوماسي- سفير العراق قبل احتلال العراق عام 2003.

وليد الكرخ ومن بين أبرز عُشاقها في طفولتهِ، صِباه، شبابهِ، شيبته. في إقامتهِ وغربتهِ.

ذاكرة مُتوَّقِدة ما دامَ لقَلبهِ ضَربة، وفي رئتهِ نَفَس (يصعَّد وينزِل). أطالَ الله ببركةِ عُمرهِ وأدامَ عافيتهِ وعطاءهِ.

يعيشُ يومهُ يقتاتُ من ذكريات خوالي السنين، إذ يَجدُ نفسه طليقاً بين اللابتوب وفنجان الگهوة ودخان باكيت الجگاير، لا يُعادي الأكل لكن ليس مِمَن يرغبون كثرَته أو تنوعه - يكتفي بالقليل و البسيط من الطعام.

لا يَتَّسِعُ لهُ وقت الليل والنهار ليبحَثَ ويكتُب؛ وحينَ تَغلِبهُ دقائق غفوَّة. يصحو (يَفِزُ) مُعاتباً جُفونِهِ. لماذا غَمِضتي أيتُها الجفون المُتعَبة؟

لا يؤلِف لكي يُباع الكتاب، ويتَحمَّلُ نفقات طباعة ما لا يزيد عن 10 نُسَخ للتخليد ولأخِصاء الأصدقاء، يَتَكَرَّمُ وهو أبن الأكارم فيهدي لي كُتبهُ - ورقية أو إلكترونية، وأثَّمِن إهداءاته.

حينَ يُشاركني أحاديث الذكريات تَغرَورَقُ عيناه من خَلف نظارته، ويأبى أن تَنهَمِرَ دَمعتهِ؛ لكن ما أنَ تفيضُ المُقل - حتى ينسابُ دَمعُ المروءة و الكبرياء دونَ كوابح. كثيراً ما ابكاني وأبكيته سواءً بالحديث المباشر، أو بمكالمة هاتفية، أو بكتابات عامة أو خاصة، عن أعزاء ارتحلوا إلى عالم الخلود، وعلى سنين غادَرَتنا بما كان فيها من فرحٍ و شَجَّن.

يُحاكي البساطة دونَ تَكَلُف، يمثلُ العقل المُتفتح دونَ عَناء، لا يتصَّنَع الوفاء بل كأنه من مكونات دَمِه - الذي يسري في عروقهِ، و يبدو في سلوكهِ.

يَهيمُ ببغداد، يَعشَقُ الكرخ، يَشتاقُ للجسر العَتيگ (الشهداء) و لساحة الشهداء، ويتغَّزَلُ بدربونَة (زنكوٌ) دَفينَة شارع حيفا.

يكتبُ بالأسماءِ وفقَ مُسمياتها و(لبو گاتها) التي يعرفُها من عايشَ ظرفية الزمان و المكان.

أرسلَ لي نسخة إلكترونية من كتابهِ "مملكة الطفولة والصبا" سأقتَبسُ "بتَّصَرُف" سطوراً من أول عناوينه "خالد حايف النايف".

يستذكِرُ الراوي فيقول: في الأزمِنة المُثقَّلة بأحزان الفُقراء، تسعينيات الاطفال الشهداء، جَلَسنا معاً في بيت الحِكمة البغدادي، وتحدثنا عن أيام وفلسَفة وتجربة (جبوري العداي) صديق (الموتى)، وعن إدراك خالد الحايف بحِسِهِ الفطري لماهية الصراع بين (الوجود والعدَم)، كونها جدلية مَقلوبة، تمشى على رأسها، بدلاً من مرارة الاشتباك وجنون التناقض، فالأحياء في رأيهِ (موتى) شاءوا أم أبوا؛ كونهم ماضون إلى الموت ولو بعد حين، ها هم يتعجلون الساعة، ويتزاحمون، ويتصارعون في حرب ضروس، وبالضِد من هؤلاء (الموتى) هُم الأحياء السُعداء الذين لم تَعُد تُلهيهم تجارة أو بيع، ولا تستعبدهم لذات الجسد العاجلة ولا المغانم الرخيصة؛ فهؤلاء هُم السعداء - الذين لو خُيروا بين البقاء في (التابوت) أو الخروج إلى (الناسوت)، لأقاموا علينا الدنيا ولم يقعدوها، ولأعتبروا مثل هذا الخَيار استخفافاً بعقولهم، فكيف يجرؤ أحد على عقد مثل هذه المقارنة البلهاء؟ بين السلام الأبدي والصراع السرمدي، بينَ السَكينة الناعمة والمِجرَّشة اليومية.. بين العقل والجنون.

صَرَخَت حروف الراوي من بين سطورها، وتعالى صوته يُناديان يا خالد... يا عاشق الفيروز في عينيّ عشتار... البحر وضريح الشيخ الكرخي، وشبابيك الزوراء.. أُخاطبكَ الآن من قلب الوطن المَطعون ودُنيانا المَوجوعة، وسَنوات الحُزن الدامي. أبحَثُ عنكَ إذ ما عادَ العقلُ يحتَّمِلُ حرائق الأسئلة، وهى تَكادُ تعصفُ بكلِ الوجود.

يستَفهِمُ الراوي بعدَدٍ من الأسئلة - مُتعجباً: تُرى هل بِوسعِ جبوري العدايّ حارس أضرحة الأولياء والأصدقاء والشهداء - أن يعودَ إلينا من ارض الموت؟! وهل بمقدورهِ أن يسمعَ ويرى ما يجري أمامه ومن حولهِ في وطن الأوطان؟!

ما الذى يُمكنُ ان يُقال في زمن الفَجيعة الوطنية، بعد أن فاضَت طُرقات بغداد - مَملكة البلدان وعروس الزمان بالدمِ والدموع؟!

ويعودُ لمُساءلة جبوري العدايّ، هل سَمعَت بصوتِ حطام عظام الأطفال وأحلام البلاد تتهشمُ على جسر الشهداء بضفتيه في الرصافة والكرخ؟!

ثُم يستنتج قائلاً: لعلَ جبوري العداي وحدَهُ من ظفرَ بالحكمةِ البالغة، وهو يستشعرُ في زمنهِ البعيد مقولته بين (الحياةُ موتٌ) و(الموتُ حياة).

ولعله أدرك الآن أيضا، بأن هولاكو العتيق كان يختبئ تحتَ جلود الأوغاد والقتَّلة واللُقطاء الذين ولِدوا على قارعة الطرقات، و(بفضل) مُرتزقتهِ الذين أعدَهُم في مختبرات) البنتاغون (إضافة إلى مئات الكائنات المَسعورة مِمَن جلبهم المُحتل معه عام 2003، تلكَ الكائنات التي أبَّت إلا أن تَقضُم أفئدةَ الأطفال، وتَلتَهِم جُثَث الشُهداء. وهى تواصلُ احتفالية المَحق والتدمير والإلغاء لشعبنا بالكامل، ومُصَمِمَة على المُضي في الغاء هوية الوطن وعروبة البلاد، حتى تَجِّف مياه النهرين ودُموع الامهات، لتصبحَ أرضُ السواد قاعاً صَفصفاً.

ينتهي فيربط بين من ارتَحَلَ لعالم الخلود، و من يُقاوم فيقول مُحبِطاً نوايا الغُزاة ومتوعداً إياهم: بأن جبوري العداي، عبدالله الفهيدى، حفصة مُراد، صديقة العُگلة، ومُلا مولود المشهداني يقفون معاً في صف الشهداء على امتداد ذارع الفحامة الشمالي: شارع حيفا، وهُم يرقبون الأبناء والاحفاد الذين قالوا (لا) مُنذُ اليوم الأول لعام الحزن وحملوا أكفانهم وهم يُقارعون القَتَّلة والطُغاة من الامريكان والغُلمان، ويؤكدون للتاريخ الحاضر والمستقبل، بأنَ الصُحف لم تطوى بعد، ولَن تَجِّف الأقلام، والأسدُ البابلي الحارس لبوابات العراق، لن يدع أحداً من الغزاة والطغاة يَفرُ بجلدهِ.

رُبَّما نلتقي مع فلسفةٍ أُخرى...

لنكتب سطوراً أخرى - عن فلسفة الراوي لجارٍ كرخي آخر.

استودعكم الله... في أمان الله.

الكاردينيا

شبكة البصرة

الاربعاء 10 رمضان 1445 / 20 آذار 2024

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط

print